شاهدت لك : أميلي بولان .. وسحر التفاصيل

10.3.09 |


بقلم أميرة طاهر

في يوم 3 سبتمبر .. من عام 1973 ..

و في تمام الساعة 6 مساءا والدقيقة 28 والتانية32 ..

حطت ذبابة زرقاء تصل سرعة خفقان جناحيها الى 14.670هزة في الثانية على أرض شارع سان فنسنت .. في نفس الثانية في شرفة المطعم , كانت الرياح تداعب المفرش , مما جعل الكؤوس تتراقص دون أن يلحظ احد .. في الوقت ذاته , في الدور الخامس عمارة 28 شارع ترودان

مسح العجوز يوجين يوكر اسم صديقه العزيز المرحوم اميل مينو من دفتر التليفونات بعد عودته من الجنازة .. وأيضا في نفس الوقت .. كان هناك حيوان منوي يخص السيد رفايل بولان حاملا كروموزم اكس يشق طريقه الى بويضة السيدة أماندين بولان المعروفة باسم أماندين فوييه .. بعد تسعة أشهر ولدت طفلة ..أميلي بولان..!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في هذا الفيلم بالذات , القصة بسيطة تكاد أن تكون هامشية , كما أفضل ألا أفسد متعة مشاهدته على من لم يشاهده , إن قوة الفيلم وجماله يكمنان في سحر الألوان والتفاصيل و الرؤية الحساسة المرهفة لعالم من نوع آخر.. معظمنا لم يكن يعرفه .

اميلي بولان .. الفتاة الطيبة الساذجة التي عاشت في عزلة ووحدة .. والتي تعمل نادلة في مقهي بشارع مونمارتر بباريس .. على وشك أن يتغير مصيرها بالكامل في خلال الأيام القليلة .. عندما تعثر على الكنز : صندوق ملئ بذكريات الطفولة يرجع عمره الى نصف قرن مضى مختف خلف بلاطة في حائط شقتها.. في نفس اللحظة التي يذيع فيها التلفزيون خبر موت الأميرة ديانا بباريس.

الصندوق في فيلم اميلي رمز غاية في العمق , فالصندوق في الوعي الجمعي للبشرية رمز خالد وشديد التعقيد يحوي كل غال وثمين ومخيف .. من صندوق باندورا إلى كنوز الملك سليمان .. الصندوق هو كل سر مغلق .. كل كنز ثمين .. لقد حفل الأدب العربي و العالمي وأدب الرحلات بقصص كثيرة لم تحمل هدفا الا العثور على الكنز .. وقد اختلف معنى الكنز في كل مرة .. و الكثيرون يذكرون حكاية الرجل الذي قطع رحلة طويلة من أجل العثور على الكنز , وفي النهاية اكتشف أن الكنز كان في الرحلة بحد ذاتها.

الصندوق في الفيلم أيضا, رمز لركن الذاكرة في العقل الإنساني .. مترب وقديم ويعلوه الصدأ , ولكنه حافل بالذكريات الجميلة عن أيام سعيدة لم نكن نحمل فيها هما .. أيام الطفولة التي تبدو لنا وكأنها تعود إلى زمن سحيق .. وتقرر اميلي البحث عن صاحب الصندوق الذي لابد أن عمره الآن يتجاوز الخمسين من العمر و أن التأثر الذي سيبدو على وجهه سيدفعها إلى لعب دور الملاك الحارس في حياة الآخرين .. ويتأثر الرجل بالفعل ويعود للتواصل مع ابنته وحفيده الذي لم يره قط ..ومن هنا تتوالى الأحداث حتى يتغير مصير اميلي بالكامل.

من أفضل مشاهد الفيلم في رأيي هو المشهد الذي تندفع فيه اميلي إلى رجل أعمي يتحسس الطريق بعصاه .. وبالطاقة المشعة من الخير التي تجتاحها وبالرغبة في مساعدة البشرية .. تندفع إليه فجأة وتصحبه إلى محطة المترو .. وبينما هي في الطريق معه تروي له تفاصيل الشارع الغنية .. إن أميلي تعير الرجل عينيها لدقائق ليرى الدنيا , ثم تتركه فجأة أمام محطة المترو وقد عرف طريقه كما اصطحبته فجأة .. مأخوذا ومذهولا , وممتنا للفتاة الغامضة التي وهبته النور للحظات.

ولكن أميلي كما تقرر لعب دور الخاطبة والملاك الحارس للناس من حولها .. فإنها تقرر أن تنتقم من كولينيون البقال الشرير الذي يعامل صبيه المسكين لوسين بخشونة وفظاظة , رغم أن أميلي كانت تحمل له محبة انسانية خالصة لأن لوسين طيب القلب مثلها ومهذب ولا يستحق هذه المعاملة الفظة من كولينيون , فتتسلل الى شقته - شقة كولينيون - وتمارس عليه الألاعيب الصبيانية لكى تفسد عليه تفاصيل حياته وتشككه في سلامة عقله .. كولينيون الفظ السخيف يفقد الثقة في نفسه وعقله ويكاد أن يجن تقريبا .. وتشمت فيه اميلي.

وتتوالى الأحداث الشيقة .. حتى يتنهي الفيلم بمشهد غرامي رقيق , يجسد الدعوة للإنسان الغربي المستقل الذي يعتمد على نفسه ولا يحتاج للآخر , ويعيش في عزلة ووحدة , لكي يسترجع ذكريات الطفولة العذبة و يعيد بناء العلاقات الإنسانية .. إن الإنسان في عالم اليوم يعيش في أزمة الفردية والوجودية , وبحاجة إلى العواطف ليخرج من أزمته وقد وجد صانعو الفيلم الحل في ذكريات الطفولة والتفاصيل البسيطة المميزة للحياة اليومية .. وفي الحب الصادق أيضا.

في فيلم أميلي ..لا يوجد شيء في الحياة اسمه شئ تافه .. إن سر الحياة يكمن في التفاصيل البسيطة الساحرة ..إن التفاصيل هي التي تصنع ملامح حياتنا الكبرى ..منذ النطفة الأولى وحتى خيارات الآخرين التي تؤثر على حياتنا بشكل غير مباشر .. إن حياتنا ليست معزولة عن حيوات الاخرين فكل البشر يحيون في دوائر متداخلة وفي منسوب من السائل واحد كنظرية الأواني المستطرقة .. كلما صببت السائل في احداها ارتفع منسوب الماء في الأنابيب الأخرى .

تميز الفيلم بموسيقا البيانو ممزوجة بالأوكورديون الباريسي المحبوب , للموسيقار يان تيرسان , وهو نفس مؤلف موسيقا فيلم ( وداعا يا لينين) .. اللغة التشكيلية في الفيلم عالية للغاية ومفعمة بالتفاصيل والألوان الحية .. فالأحمر صارخ وقوي , والوردي زاه , والأصفر مشع , والبرتقالى دافئ وحيوي.. حتى الظلال المتمثلة في الأسود أحسن المخرج استخدامها .. إن الألوان الزاهية الدافئة سمة مميزة للفيلم الفرنسي بشكل عام .. ولكنها هنا تزداد وضوحا .. القيم الجمالية في الفيلم مرتفعة بشكل يلفت النظر والفضل لمهندس المناظر آلان بونيتو .. المؤثرات الصوتية أيضا أحسن المخرج استخدامها مع حركة الكاميرا .. حتى صوت الراوي والذي يعتبر عادة نقطة ضعف في العمل الدرامي لأن المفروض أن الفن يشرح نفسه بنفسه .. كان نقطة قوة وتحسب بذكاء للدراما بدلا من ان تكون عبئا علينا أو تشعرنا بالغباء , إن الراوي أعطانا الشعور بأننا اطفال يحكي لنا الوالد حكاية شيقة .. فأعاد لنا شعور الطفولة الماضية حين كان الأهل يحكون لنا قصص ما قبل النوم .. ونسهر مشدوهين منتظرين النهاية.

لقد أثبت صناع فيلم اميلي أن السينما (الجميلة ) ليس من الضروري أن تكون زاعقة وصارخة تتبنى القضايا الاجتماعية الحرجة , ولا الأفكار السياسية والفلسفية الخطيرة , ولا الحروب الكبرى .. ليس من الضروري أن تكون السينما مثيرة للضجة و (تخدم المجتمع ) و تفرز أفلاما ممسوخة وقبيحة بدعوى الواقعية والواقعية الجديدة .. يكفي فقط أن يكون الفن انسانيا ويجسد مفهوم المواطن العالمي و الإنسان .. إن فيلم أميلي متعة لكل الناس من كل الثقافات و الأعمار من عمر الخامسة حتى عمر الثمانين .. لقد لاقى الفيلم استحسانا عالميا من قبل الجمهور والنقاد .. واكتسح في شباك التذاكر في معظم البلدان .. وحصد الجوائز .. فقط ليثبت أنه مازال هناك أمل في الحب وفي الخير وفي ايجابية البشر وفي متعة تذوق سحر التفاصيل في الحياة .. هنا فقط قد نشعر بالسعادة.

هذه السعادة هي بهجة التفاصيل الحلوة التي قد نجدها في ثمرة فراولة ندسها في أفواهنا .. في نفخ فقاقيع الصابون .. في لعبة او دمية بسيطة .. في تساقط صف الدومينو .. في اللعب بالكؤوس الموسيقية .. في رشف الحليب من الكوب حتى الرشفة الأخيرة .. في نفخ بالونة .. في صورة لسحابة بيضاء .. في عملة معدنية تدور كنحلة .. في بلية صغيرة نلعب بها .. في ملمس الزلط الأملس حين نلقيه في جدول ماء متدفق .. في بخار الماء المتكثف من أنفاسنا الحارة على سطح زجاجي بارد ..في لعبة القص واللصق .. في ترتيب الأشياء وتنظيمها .. في حلم يقظة بالتضحية من أجل الأخرين .. ومحاولة تحقيقه أيضا.

أنتم جميعا مدعوون إلى إعادة اكتشاف حياتكم ومشاهدة فيلم أميلي بولان .. إلى كل انسان حزين .. إلى كل فاقد للأمل .. إلى كل انسان يظن أن حياته تافهة وليست حياة عظيمة أو حافلة بالإنجازات ..كل انسان لا يجيد الإستمتاع بحياته او بسحر التفاصيل في حياته اليومية .. أنتم جميعا مدعوون لمشاهدة فيلم أميلي بولان .. !

إن الحياة دائما جميلة , وبسيطة , وتستحق أن نحياها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

http://www.youtube.com/watch?v=2T9dUBO4pv0&feature=related

قام بدور أميلي بولان : أودري تاتو

قصة : جيليوم لوران

مهندسو المناظر : آلين بونيتو ، ماريلور فالا

موسيقا : يان تيرسان

سيناريو واخراج :جان بيير جينيه


3 comments:

عم مينا said...

مقالة رائعة يا أميرة

أنا بجد كل ما بشوف الفيلم ده بحس اني بعد كذا يوم بعديها في حالة غريبة و نظرتي للحياة فعلاق بتختلف
و بالمناسبة موسيقي الفيلم في رأيي من أعظم الساوندتراكات اللي اتعملت في التاريخ

تحياتي

Anonymous said...

المرة دى انا شايفك بعين مختلفة..شايفك بتنقضى بشكل اكاديمى متخصص والحقيقة انا فى المنطقة دى هاوى لكن دة ما يمنعش انى استمتعت كتير باسلوبك وطريقة تحليلك وسردك لتذوق فن الحياة من خلال كتابتك عن الفيلم
فى نقطة حابب اقولها..ان كل حاجة لها مضمون ومش عشوائية بيكون لها بعد جمالى من منظور معين حتى لو كانت بتصور قبح الواقعية ودة من وجهة نظرى ما بيتعارضش مع فكرة ( ان يكون الفن انسانيا يجسد مفهوم المواطن العالمى والانسان) على حد تعبيرك

Anonymous said...

بصراحه انا معرفش الفيلم ده..
بس مقالتك الرائعه دي حببتني فيه من قبل ما اشوفه
وفعلا.. هدور عليه