قرأت لك : الأشياء .. بقلم فالنتاين كاتاييف

13.2.09 |



بقلم أميرة طاهر


ربط الحب المشبوب بين قلبي جورج وشوركا , فعقدا زواجهما في يوم من أيام شهر مايو , في جو صاف معتدل , وما كاد الموظف ينتهي من كلمات التهنئة المقتضبة التي أصغيا اليها بصبر نافد , حتى اندفع العروسان الشابان خارجين من مكتب التوثيق الى الطريق العام

كان جورج طويلا نحيلا , ذا صدر مهزول وطبع هادئ , نظر إلى شوركا بطرف عينه في حياء وقال : "إلى أين نذهب الآن؟" وكانت شوركا طويلة أيضا جميلة أنيقة مشاعرها متقدة ملتهبة , فزادت من التصاقها به حتى دغدغ أنفه غصن الليلاك الذي يزين شعرها .. وهمست بانفعال :"إلى السوق طبعا لشراء الأشياء ! وهل هناك غير السوق ؟!".. وقال جورج : "تقصدين لشراء الأثاث ؟ "وارتسمت على شفتيه بسمه غباء , ويده تصلح من وضع الكاسكيتة على رأسه أثناء السير


كانت الريح تهب فتثير الغبار في السوق .. والأرواب المعلقة فوق الدكاكين المنصوبة تتماوج مع الهواء الجاف , والجراموفونات القديمة ينافس بعضها بعضا في الصرير الذي يعلو صوت الموسيقا , والشمس تنعكس عن المرايا المعلقة , وشتى البضائع وألوان السلع والأحذية , بل وبعض المعروضات ذات الجمال الأخاذ تحيط بالعروسين الشابين


واحمر خدا شوركا .. وتصبب العرق على جبينها .. وتهدل شعرها واختلط حتى وقع غصن الليلاك , واتسعت حدقتا عيناها , وبرقتا , وهي تضع يدها الملتهبة على كوع جورج , وتدفعه دفعا الى داخل السوق وهي تعض على شفتيها الغليظتين المتشققتين , وقالت بأنفاس محتبسة : " اللحاف أولا ! لحاف من ريش الأوز أولا !" .. كانت صرخات الباعة تصم الآذان .. فأسرعا بشراء لحافين مربعين , وكان كل لحاف ثقيلا غليظا , أعرض مما ينبغي وأقصر ما ينبغي , لون أحدهما أحمر طوبي والآخر بنفسجي داكن


وقالت شوركا :" والآن إلى الأحذية ذات الرقبة !" واقتربت بوجهها من وجه جورج حتى غمرته أنفاسها الحارة .." ولا بد ان تكون البطانة حمراء , وعليها حروف مميزة حتى لا يسرقها أحد" .. واشتريا الأحذية , زوج من الأحذية الحريمي وأخر رجالي .. وكانت البطانة قرمزية وكذلك الحروف .. ولمعت عينا شوركا وبرقتا وهي تقول :"الفوط ! وعليها زخارف من صور الديوك !" وكانت انفاسها تتلاحق كالأنين , وبعد شراء المناشف ذات صور الديوك , اشتريا أربع بطانيات , وساعة بمنبه , وقطعة من القماش المخملي , ومرآه , وسجادة صغيرة مزخرفة بصورة النمر , وكرسيين جميلين بهما مسامير نحاسية , وعدة كرات من خيوط الصوف



وكانا يريدان أيضا شراء سرير كبير له مقابض من المعدن وبعض الأشياء الأخرى , ولكن المال قد نفذ , فعادا إلى المنزل وقد حملا ما اقتنيا من أشياء , فكان جورج يحمل الكرسيين , وعلى صدره اللحافان المطويان يمسكهما بذقنه , والعرق يبلل شعره ويلصقه بجبهته البيضاء الشاحبة , وقطراته تنساب على خديه الناحلين , وارتسمت الظلال الزرقاء تحت عينيه وفمه نصف مفتوح تبدو منه الأسنان غير السليمة , ويوشك أن يسيل منه اللعاب


وعنما دخلا الى منزلهما البارد , خلع الكاسكيته معبرا عن ارتياحه ثم سعل , ووضعت شوركا الأشياء على سريره الصغير , وعادت شوركا إلى تأمل الأشياء وابداء الإعجاب بها , وقامت بتغطية الكرسيين بأوراق الصحف , ووضعت الأشياء الأخرى في صندوق كبير وأغلقته بإحكام , ثم ألقت نظرة على الغرفة .. وبنزوة من نزوات الحياء التي تنتاب الفتيات لكمته لكمة خفيفة بقبضتها الكبيرة الحمراء في صدره .. وقالت له متظاهرة بالصرامة :" اسمع !لا أريدك أن تسعل ! وإلا أصبت بالسل وهلكت , وانت الآن مسئول عني , وأنا أعني ما أقول !" ثم وضعت خدها الأحمر على كتفه النحيل , وبدآ يمارسان الحب


وفي منتصف الليل .. استيقظت شوركا مهتاجة قلقة .. وأيقظت زوجها صائحة:"هل تسمعني يا جورج؟! جورج؟! .. أفق يا جورج! لقد أخطانا بعدم شراء اللحاف الأصفر! اللحاف الأصفر الفاقع أظرف بكثير ! أنا الآن واثقة بأننا كان من الضروري أن نشتريه ! وبطانة الأحذية غير مناسبة هي الأخرى ! كان ينبغي أن نشتري الأحذية ذات البطانة الرمادية ! إنها أجمل كثيرا من البطانة الحمراء ! والسرير ذو المقابض ! إننا لم نفكر فيه التفكير اللازم !"



وفي الصباح وبعد أن ذهب جورج إلى عمله , هرعت إلى المطبخ مع جاراتها لمناقشة انطباعاتها عن الزفاف , فبدأت بالحديث _من باب مراعاة الأصول _عن ضعف صحة زوجها لمدة خمس دقائق , ثم دعت الجارات إلى دخول غرفتها حيث فتحت الصندوق الكبير وبدأت في عرض محتوياته , وأخرجت اللحافين وتنهدت تنهيدة سمعتها كل الحاضرات , وقالت:" لقد أخطأنا بعدم شراء الحاف الأصفر الفاقع , لم يجل بخاطرنا أن نشتريه , اللحاف الأصفر الفاقع رائع ......" ودارت عيناها وغامتا


وأثنى الجيران على الأشياء , وقالت زوجة الأستاذ وهي عجوز طيبة القلب :" كل هذا جميل .. ولكن يبدو أن زوجك مصاب بسعال خطير , إننا نسمع كل شيء من خلال هذا الحائط الرقيق , يجب أن تهتمي بهذا الموضوع .. وإلا .. كما تعرفين .. قد تسوء صحته أكثر ".. فقالت شوركا :" لا لن يموت بالسعال , وسأرعاه بنفسي , وسأقلي له شرائح لحم الخنزير وسيأكل حتى يشبع !"



ولاقى الزوجان الشابان الأمرين في العيش حتى حان موعد قبض المرتب التالي , ولكن ما إن جاء المال حتى اتجها من فورهما الى السوق , واشتريا اللحاف ذا اللون الصفر الفاقع ,والأحذية ذات البطانة الرمادية , وبعض اللوازم التي لا غنى عنها , إلى جانب بعض الأشياء البالغة الجمال : ساعة دقاقة , وقطعة من فراء القندس , ومنضدة صغيرة لوضع إناء الزهور بأحدث أساليب الموضة , وستة ياردات من الحرير الناعم , وتمثال رائع عجيب الشأن لكلب مزين ببقع مختلفة الألوان , وروب منزلي من الصوف , وصندوق صغير مائل للخضرة ويصدر أصواتا موسيقية عند فتحه , وعندما عادا إلى المنزل المتواضع , وضعت شوركا الاشياء بنظام محكم في الصندوق الكبير وبدت سعيدة جدا بما ابتاعته , بينما بدا جورج منهكا ,مرهقا .. وأزرق



ولكن شوركا لم يهنأ بالها كثيرا , إذ استيقظت فجأة في منصف الليل , وأسندت خدها الملتهب إلى جبهة زوجها الباردة المبتلة بالعرق , وهمست بصوت محموم:" جورج ! هل أنت نائم؟ جورج ! لاتنم ! اسمعني يا حبيبي ! كان هناك لحاف أزرق ! أنا حزينة لعدم شرائه ! خسارة ! إنه لحاف لطيف لطيف ! يبرق لونه بعض الشيء .. لم نتصور أنه ..."


وذات يوم في منتصف الصيف , دخلت شوركا إلى المطبخ وهي تقول في مرح وسرور :" حصل زوجي على عطلة بمرتب كامل لمده شهر ونصف ! كل زملائه حصلوا على أسبوعين ولكنه حصل على شهر ونصف ! سوف نذهب الى السوق لشراء السرير ذو المقابض المعدنية"! .. فقالت العجوز زوجة الأستاذ :" نصيحتي أن تتخذي بعض الترتيبات لإدخال زوجك إلى مصحة جيدة , وإلا قد يفوت الأوان لبدء العلاج !" .. وردت شوركا بنبرات غاضبة :" لن يحدث له شيء وسأرعاه بنفسي خيرا من أي مصحة , سأقلي له شرائح لحم الخنزير و سأدعه يأكل حتى يشبع !"



وعاد الزوجان الى البيت في المساء من السوق , بعربة يد صغيرة حافلة بالأشياء , وكانت شوركا تسير خلف العربة وتتطلع ببصرها إليها كأنما قد سحرها انعكاس وجهها في النيكل الذي يكسو حديد السرير , بينما كان جورج يزفر زفرات ثقيلة ويكاد لا يقوى على دفع العربة , ويمسك اللحاف الأزرق المطوي بذقنه المدببة , ولم يتوقف عن السعال وانحدرت قطرة داكنة من العرق على فوده الغائر.



واستيقظت شوركا بنفس الطريقة أثناء الليل وقد أقض التفكير العميق مضجعها , ونهشت الأفكار ذهنها , وشرعت في الهمس المحموم:"جورج ! حبيبي جورج ! مازال هناك لحاف رمادي ! هل تسمعني؟ رمادي رمادي ! يحزننا أن لم نحصل عليه ! خسارة خسارة ! ما ألطفه وأجمله ! ولكن البطانة ليست رمادية إنها وردية اللون .. ما أرقه وأظرفه من لحاف !"



أما آخر مرة شوهد فيها جورج فكان في ذات صباح خريفي بارد, وكان يسير بصعوبة في الشارع الجانبي الصغير , وقد غطى أنفه الطويل الشفاف بياقة سترته الجلدية المتآكلة , وكانت ركبتاه الحادتان بارزتين , وسرواله الفضفاض يخفق حول رجليه الهزيلتين , وتدلى شعره المبلل الفاحم على جبهته بينما تدحرجت الكاسكيتة الصغيرة الى مؤخرة رأسه قليلا .. كان يتعثر في سيره ورغم ذلك كان يتجنب الخوض في برك المياه حتى لا يبتل حذاؤه النحيل.. وعلى شفتيه تتراقص بسمة واهنة .. بسمة سعادة ..ورضا .. وقناعة.



وفي الشتاء , ظهر الأطباء داخلين خارجين من المنزل .. واكتسى الجو بلون أزرق .. وملأ الضباب الشوارع .. وتساقطت الثلوج واستيقظت شوركا أثناء الليل وهي تشعر بحزن لا تفسير له يمزق نياط قلبها , وهمست بصبرنافد :" جورج ! استيقظ يا حبيبي جورج !" .. ولكن جورج لم يرد .. كان باردا .. ولم يستيقظ جورج بعد ذلك قط .. وانفجرت شوركا باكية .



بعد ثلاثة أيام جاءت عربة الموتى , ووقفت أمام المنزل , وفتحت البوابة على مصراعيها لكي يخرج النعش , ودخل الهواء الزمهرير في شتى أرجاء المنزل المتواضع , وشاعت رائحة زيت الصنوبر في كل مكان.. وشربت شوركا في مأدبة المأتم نصف كوب من براندي الذرة وراحت تهلوس وتبكي , ثم سقطت بقوة على الصندوق الجديد , وبدأت تضرب القفل الموسيقي برأسها .


وعاد كل شيء بعد ذلك إلى مجراه الطبيعي , وساد النظام والروتين , وعادت شوركا إلى العمل في المصنع , وجاء رجال كثيرون أثناء الشتاء يطلبون يدها , ولكنها رفضتهم جميعا , فقد كانوا جميعا طامعين فيها وقد اجتذبتهم فقط ما جمعته من اشياء , وهي كانت تريد رجلا هادئا طيب القلب .. حتى التقت بإيفان .. انه سائق خصوصي .. يتسم بالهدوء والطيبة والدماثة , وكانت شوركا قد شغفته حبا .. وعندما حل الربيع كانت شوركا قد بادلته حبا بحب ..



كان الجو صحوا في مايو .. وما كاد موظف التوثيق ينتهي من كلمات التهنئة المقتضبة التي أصغيا إليها بصبر نافد , حتى انطلق العروسان الشابان من المكتب الى الطريق العام ... وتساءل الشاب إيفان بخجل وهو يخالس شوركا النظر :" إلى أين نمضي الآن ؟" .. وزادت شوركا من التصاقها به , ودغدغت أنفه بغصن الليلاك القاهر , وقالت بانفعال اتسعت له فتحتا أنفها :" إلى السوق ! وهل هناك سوى السوق ؟! لشراء الأشياء " ... وفجأة بدت عيناها كبيرة .. ومستديرة


تمت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


تجسد هذه القصة الرائعة التي كتبها الأديب الروسي فالنتاين كاتاييف وترجمها البروفيسير محمد عناني أستاذ اللغة الإنجليزية العملاق والمترجم الفذ بآداب القاهرة , سطوة الأشياء وهوس الانسان بالامتلاك , حتى يعمى بالكامل عن رؤية ما هو مهم في الحياة حقا .. لقد خسرت شوركا زوجها الحبيب , فقط لانها كانت مشغولة بالاقتناء .. ففي الدولة الشيوعية القاسية التي لا مجال فيها للسماء , ولا امل في الجنة التي هي حلم الفقراء في العدالة , يدور كل شيء حول الأرض .. وتتحول الأشياء الملموسة الى كل ما يطمح اليه الإنسان , وفي دولة لا تسمح بالامتلاك فإن امتلاك الأشياء يجعل الانسان يحقق اشباع رغبته الغريزية في التملك .. امتلاك انسان أو امتلاك شيء


لدينا في مصر والعالم العربي هذا الهوس بالاقتناء , انها ثقافة خاصة أسميها ( ثقافة النيش ) .. هذا النيش هو قطعة ضخمة ثقيلة الظل من الأثاث ليس لها أي معنى ولا قيمة يصر الناس على اقتنائها في بيوت هذه الأيام الضيقة الصغيرة التي لا تسمح مساحتها بوجود مثل هذه القطعة عديمة المعنى , ولكنك تفاجأ بها كاللطمة على وجهك بمجرد دخولك الى ردهة أحدهم , تضيق الغرفة و تكتم على أنفاسك وتثقل روحك بمحتوياتها من الكؤوس و الأكواب والأطباق البراقة


لقد كان النيش في الأصل قطعة من الأثاث ظهرت في فرنسا كدولاب للزينة , يضع فيه النبلاء والأمراء النياشين التي تلقوها من الملوك , وجوائز رحلات الصيد التي حصلوا عليها , و الأطباق التذكارية المنقوش عليها رمز الملكية المهداه من الملك , أو شعار أسرتهم الذي يصنعونه خصيصا , أو شعار الحزب أو النادي الريفي الذي يتشرفون بعضويته .. ولكن التخلف الذي زحف على المضمون في مصر انسحب على المظهر .. فالصعود السريع للطبقة العاملة بعد الانفتاح مع عدم وجود نمو ثقافي وسلوكي بشكل مواز لهذا الصعود المادي المباغت , جعل محدثو النعمة يرغبون بشدة في نقل المظاهر الأرستقراطية إلى حياتهم نقل المسطرة دون تفكير , فوضعوا في النيش أطباق الطعام والشراب من الصيني المنقوش المزخرف والكريستال .. أطباق عادية ليس عليها شعار ولا اسم ولا تاريخ وليس لها ذكرى ولا معنى.. وبذلك صنعوا في مختبر الجهل والسوقية والتقليد الأعمى النسخة البدائية لفيروس ثقافة النيش


الأسخف أن الناس تقتني في بداية الزواج الكثير من الأطباق والأكواب مخصصة فقط للعرض والتباهي دون تفكير في معنى استخدامها , مثل طقم الكؤوس الرفيعة الطويلة والكؤوس الكبيرة العريضة المفلطحة والأكواب المربعة القصيرة المدكوكة , الجهل يجعل الناس يقتنون دون أن يفهموا قواعد الإتيكيت , لأن الكؤوس الطويلة الرفيعة مخصصة فقط لشرب الشمبانيا , والكؤوس المفلطحة لا يوضع فيها سوى النبيذ , والأكواب المربعة المدكوكة لا يوضع فيها سوى الويسكي بالثلج .. غالبية الناس في مصر لا يشربون الكحوليات , ولكن الجهل بالاتيكيت يجعلهم يقدمون العصائروالخشاف في كؤوس الكحوليات



نقطة أخرى أسخف من الأولى .. هي هوس العروس المصرية بإيعاز من أمها المسيطرة بشراء طقم الشاي الأثري بالإبريق الصيني والفناجين واللبانة والسكرية الخ الخ بالاضافة إلى عدد من الأطقم الصيني (للضيوف الرسميين ) وطقم آخر للاستخدام اليومي وطقم الأركوبال وطقم الميلانين .. طقم الميلانين هذا مع فريق الأكواب البلاستيك هو أقبح و أبشع شيء من الممكن أن تراه في بيوت العائلات المصرية .. هذا الطقم غير قابل للكسر لهذا يضعون فيه الطعام للأطفال , ولكن قلة الذوق تجعل الناس يستخدمونه يوميا في الوجبات الثلاث حتى ولو لم يكن في الأسرة أطفال .. أنا شخصيا أكره أطباق الميلانين جدا ولا أطيق منظرها ..ولا أعرف لماذا ولمن يدخرون الملاعق الفضية والصيني الثمين في هذا الزمن الذي لم يعد فيه أحد يزور أحدا وانقطعت فيه صلات الأرحام .. ولا أحد يشرب الشاي في فناجين لأن القليلين من الناس يعرفون بروتوكول شاي الخامسة عصرا البريطاني الشهير بكل طقوسه ومراحله الثلاث المعقدة , ومن يعرف يتكاسل عن اتباع اصول التقديم والكل يصبون الشاي في المجات الكبيرة المريحة


المفارقة المثيرة حقا للسخرية هو انفصام الشخصية الذي نعاني منه في نظرتنا للمعنى الأشياء ومتى نستخدمها .. نحن لا نمتع أنفسنا بأشيائنا , ندخرها فقط للتباهي أمام الناس اذا جاء الضيوف ظهرت الملابس الجميلة و الأشياء الغالية , وبعد ان ينصرفوا تدخل التشاينا الى النيش وتظهر الأطباق البلاستيك وتختفي الملابس الجميلة في الدولاب !! .. الناس تضع أمام الأصدقاء والضيوف المقربين أدوات المائدة الرخيصة وتدخر الغالي للغرباء , وتصنع الأطعمة التافهة والوجبات العادية التي لا فن ولا ابداع فيها مع الأحباء ثم يجهزون الولائم العامرة للغرباء , بينما من المفروض أن يحدث العكس , فأنا حين أكون سعيدة بمجيء أصدقائي المقربين وأقاربي الأعزاء الذين أحبهم حقا , فمن المفروض أن أخرج من اجلهم أحسن ما عندي من أدوات , وأهتم بتنوع أصناف الطعام لكي أسعدهم وأحسن ضيافتهم , بينما لا يعنيني الغرباء الذين يأتون دون موعد مسبق ولا أراهم الا في المناسبات المتباعدة .. والذين يأتون ليأكلوا عندي وينتقدوا طهيي وبيتي وملابسي وكافة تفاصيل عالمي بمجرد أن ينصرفوا .


_______________________________


مع تتابع الأجيال اصبحت التقاليد النيش ثقيلة راسخة يتبعها الناس دون تفكير كالقطيع .. من طقوس الزفاف المزعجة الى سلوكيات الحياة المختلفة ولكم ان تتخيلوها .. كل تقليد جاهل ومزعج ومفرغ من المعنى هو ( تقليد نيشي) .. كل فكرة أخذناها مسلما بها هي جزء من ثقافة النيش .. كل المعتقدات البالية التي توارثناها بلا تفكير هي جزء من فلسفة النيش , كل السلوكيات التي نتبعها كالمنومين مغناطيسيا والتي لا تختلف عن نظرية الارتباط الشرطي التي طبقها العالم الروسي بفالوف على الكلاب هي طبق رخيص موضوع في النيش .. نحن لم نخلق لهذا .. لقد خلقنا لنجدد ونغير ونثور على الموجود , نحن لسنا كلاب بافلوف .. نحن بشر لدينا عقل وإرادة


إن ( ثقافة النيش ) الخرقاء تجعل المصريون يقتنون الأثاث الكلاسيكي الثقيل من طراز لوي كانز ولوي كاتورز و الذي يرجع تاريخه إلى مايزيد عن ثلاثمائة سنة مضت .. ويقتنون ادوات المائدة , وهم لا يعرفون أي شيء عن اتيكيت الضيافة و أصول تناول الطعام , نحن نهتم بشراء السرير والملاءات والوسائد الوثيرة بينما نحن جهلاء لا نعرف شيئا عن مشاعر النصف الآخر وفاشلون في فنون الجنس .. الفتاة تبتاع عشرات من قمصان النوم المزخرفة المثيرة وهي أجهل ما يمكن في فن الإغراء , و تظن أن هذه الهلاهيل الشفافة هي كل ما سيصنع منها زوجة رائعة .. لديها رحم يجيد تفريخ الأطفال كأية أرنبة بينما هي أجهل ما يكون بقواعد واصول التربية ..نحن لدينا أحدث شاشة إل سي دي ولا نتفرج من خلالها إلا على المسلسلات العربية المتخلفة .. لدينا موبايل غال وعصري ولكننا لا نجيد فن الكلام والتواصل ولا استخدامه والانتفاع بفوائده , لدينا سيارات ولكننا لا نعرف شيئا عن أخلاق القيادة , لدينا أزواج وزوجات ولكننا لا نعرف شيئا عن التواصل والحب .. لديناء أشياء, وأشياء, وأشياء .. ولكننا في الواقع مفلسون و فقراء إلى أبعد الحدود

2 comments:

Anonymous said...

بعد ما قريت الجزأ الخاص بالرواية كان عندى كلام يناقش فكرة تأصل المادية فى حياتنا وبعد ما قريت التعليق لقيت افكار كتير بتتزاحم فى دماغى علشان تطلع ولو كتبتها هتاخد مساحة كبيرة ..فانا هاحاول اقول مضمون اللى فى دماغى
فى مرة سرحت وبصيت على مصر فى القرن اللى فات فلقيت فيها العقاد وطة حسين واحمد شوقى وناجى وام كلثوم وناس كتير هى علامات فى مجال الفكر والادب وكان ليها مكانة كبيرة وتقدير من المجتمع ولما بصيت على مصر بعد الالفية والعولمة لقيت فيها لعيبة كورة ونجمات فيديو كليب ورقاصات وبردة ليهم مكانة كبيرة وتقدير من المجتمع
الجو العام يا اميرة بيأثر بشكل كبير على ثقافة المجتمع ومستوى تفكير الناس وفى رأيى ان دة من الاسباب الرئيسية اللى خلانا مفلسون وفقراء الى ابعد الحدود

Hypatia said...

الارواح لا تتغذي على الاشياء يا أميرة
لذلك ارواحنا فقيرة ربما نكون الافقر على وجه الارض من هذه الناحية