مصر.. بتاعة مين؟

10.11.08 |


بقلم محمد شادي

كالعادة في صباح كل سبت، أخرج من بيتي في ضاحية مصر الجديدة التي لاتزال تحتفظ ببعض جمال كان يغمرها في يوم من الأيام، تأخذني للحظات صورتها القديمة التي رأيتها عليها أيام المدرسة الابتدائية منذ بضعة وثلاثين عاماً مضت. يأخذني الكسل لأن أترك سيارتي لأتمشى في شارع الأهرام الجميل تحت البواكي الممتدة بطول الشارع لأفيق على مرارة تكسو وجوه الناس في الشارع.
لم تعد مصر الجديدة وميدان روكسي كما كانا، فقدا الكثير من بريقهما، كما فقدت أنا دهشة الطفولة أمام الفاترينات الرائعة. لون التراب لم يعد فقط يكسو واجهات العمارات، بل امتد ليكسو وجوه الناس. عدت أدراجي سريعاً، لأدير محرك سيارتي ولأنطلق نحو الملاذ الأخير كلما احسست بوجع القلب، إلى ميدان سيدنا الحسين، لأختبئ في أي من مقاهيه المتعددة، وحيداً

في الطريق، لاحظت أن المصريين لم يعودوا ودودون كما كانوا، وكما كانت شهرتهم على مر الزمن. قررت الهروب مرة أخرى، هذه المرة إلى داخل الحواري الضيقة لخان الخليلي. وفي نهاية المطاف وصلت إلى وجهتي، مقهى السكرية، أو ما تبقى منه.

جلست في مكاني المفضل بعد أن القيت السلام على صديقي العجوز، عم محمد، لم احتج لأن أطلب أي شيء، فعم محمد يعرف طلبي جيداً، (قهوة على الريحة بن غامق في كباية)، وبينما اختفى عم محمد داخل المقهى الذي تقلصت مساحته مؤخراً عدة مرات، راحت عيني تتجول في المكان، وبدأت أصوات الورش المجاورة تتسلل إلى أذني على استحياء.

مر علينا عم سيد صاحب ورشة الصدف المجاورة للمقهى، دخل إلى عم محمد وبيده كوب فارغة، وخرج والكوب ممتلئة بالماء الذي تتصاعد منه الأبخرة. ألقيت عليه السلام فلم يسمعني، كررت المحاولة رافعاً صوتي فالتفت نحوي راداً السلام وراسماً ابتسامة باهتة على وجهه المجعد بفعل الزمن.

جاء عم محمد بالقهوة فطلبت منه أن يأتيني بها عند عم سيد، وجلس ثلاثتنا حول الطاولة التي يعمل عليها عم سيد.

سألت صديقاي العجوزان: لماذا يبدو المكان فارغاً، كان خان الخليلي خلية نحل لا تهدأ، على أن ما أراه اليوم كما لو كان قاعة مهجورة في متحف، قلما تدخل اليها أقدام الزائرين.

بدا عم أحمد كمن كان ينتظر السؤال: "لم يعد هناك الكثير، فصاحب المقهى كلما زاد الضغط المادي عليه، يبيع جزءاً من المكان حتى لم يعد باقياً سوى ما يقرب من ربع المساحة الأصلية، فالمرتادون لم يعودوا يأتون كعادتهم، تحت وطأة الأزمة المالية التي يعيشها كل الناس اليوم. لم يعد لدينا سوى القليل من الرواد والباقي هم أصحاب الورش المجاورة والذين هم أيضاً صاروا يكتفون بالماء الساخن، عوضاً عن الطلبات. الحال أصبح صعيباً" على حد تعبير عم محمد.

طول ذلك الوقت كان عم سيد يجهز شايه بهدوء ثم عاد لمقعده ليبدأ العمل في هدوء، وبطريقة ميكانيكية آلية لا روح فيها، نظرت إلى عينيه المركزتان على اصبعه المبلل بالغراء فبدأ يتكلم ببطء: "كان السائحون فيما مضى يأتون إلى الورشة ليروا بعيونهم كيف تصنع تلك المشغولات التي يرونها تامة الصنع في المحال بالخارج، وعندما كانوا يفعلون ذلك، يدركون مدى صعوبة الصنعة وجمالها، فكانوا مستعدون لدفع كل ما نطلبه، أما اليوم، فلم يعد هناك صنايعية ولا ورش، لقد قتلت الصين والمنتجات الصينية كل ما تبقى لنا من أمل، فلم يعد لدينا اليوم سوى أن نعمل هذه المنتجات من علب وصناديق وإطارات الصور فقط للمحال التي لا تستطيع أن تستورد المنتجات الصينية. قل ثمننا وراحت أيام عزنا، وضاعت الصنعة."

سألت عم سيد عن اختلاف الصنعة اليوم عن الماضي، توقفت يديه عن العمل، ونظر في عيني مباشرة ليقول بنبرة فيها الكثير من الندم والحسرة: "أين هي الصنعة اليوم؟ لم يعد في مقدورنا أن نشتري الصدف الحقيقي، وها هي الصين تبيعنا القطع سابقة التشكيل والمصنوعة من البلاستيك، وأصبحنا مضطرين لاستخدامها فهي أقل كلفة. وأصبحنا نقدم منتج من الدرجة الثانية، بينما نرى مثلاً منتجات رائعة مستوردة من سوريا وإيران، كنا والله في الماضي نعمل أروع منها."

توقف الحديث فجأة كما بدأ فجأة وعاد عم سيد لأدائه الميكانيكي الآلي، وانهمكت أنا في التقاط بعض الصور له، قبل أن تفرغ أكواب الشاي والقهوة. ويسود الهدوء مرة أخرى.
خرجت من المكان ماراً على نقطة شرطة السياحة التي كان عساكرها يتناوبون النظر إلي باستغراب بينما الضابط الجالس بالداخل مشغول بهاتفه المحمول.

عبرت الدرج الواقع تحت اللوحة التأسيسية للمكان، وشعرت بالمرارة حين تذكرت كيف كان هذا المكان من قبل.

وأنا في طريقي نحو وسط البلد، عبرت عيني على ما تبقى من سقف المسرح القومي بعد الحريق، تأكد لي أن السقف الرائع قد سقط تماماً كما ذكرت التقارير الصحفية منذ ليلة الحريق، بينما وفي ذات الوقت تبقت القبة المعدنية التي كانت الهيكل الداخلي للسقف، فتأكد لي كذلك أن المسئولين لم يكذبوا حين نفوا سقوط السقف!!!

نزولاً من كوبري الأزهر وعبر شارع عدلي ثم يساراً إلى شارع شريف، على امتداده عبر البنك المركزي المصري، محل ملابس الأهرام، ومحل شاهين الشهير للأسماك المملحة، ثم التوحيد والنور ثم مقهى البرابرة، فيميناً في شارع محمد محمود، الجامعة الأمريكية ومكتبتها، ثم ماكدونالدز وبيتزا هت وهارديز الذي احتل مكان مقهى أسترا الشهير الذي اختفى منذ ما يربو على العشرين عاماً، طفت بسيارتي حول ميدان التحرير. استوقفتني إشارة المرور فأغمضت عيني للحظة متذكراً صورة قاعدة التمثال المهيبة التي انتصبت في وسط الميدان في يوم من الأيام قبل أن يجتاح مكانها ساحة انتظار المجمع بواجهته المتجهمة، أخذت طريقي ببطء واستدرت إلى اليمين عبر النفق الصغير، ثم إلى كوبري قصر النيل حيث أخبرتني وجوه العابرين على الكوبري عما لم استطع أن أتفهمه في حينه. حالة الوجوم تكسو الوجوه، حتى صور الأحباء اختلفت، زالت البسمات من على وجوههم، بينما وقف الكثيرون، متوحدون شاخصي الأبصار، أو موجهين نظرهم نحو الماء تحتهم، كمن يحاول أن يتذكر شيئاً نسيه منذ زمن. التساؤلات على الوجوه والأجوبة محتجبة عنهم.

رفعت رأسي لأرى إن كانت الإشارة المرورية قد تغير لونها من الأحمر إلى الأخضر فقابلني مشهد برج القاهرة المهيب، استدرت إلى اليمين ثم يساراً باتجاه شارع البرج، اوقفت سيارتي وتوجهت إلى شباك التذاكر، لم أكن قد صعدت البرج منذ عدة أعوام.

من فوق البرج نظرت نحو القاهرة، لأرى الدخان يكسوها بسحابة قاتمة، لم يعد بإمكاني أن أرى الأهرام من هنا كما تعودت، بينما على الجانب الآخر وتحت أقدام البرج تلألأت على صفحة النيل صفوف من المراكب السياحية الضخمة، لا يستطيع الكثيرين منا أن يدفعوا فقط الحد الأدنى لدخولها، ناهيك عن تناول وجبة فيها.

عائداً على كوبري قصر النيل ولكن سيراً هذه المرة، استوقفني مشهد ثلاثة أطفال يلهون على فلوكة صغيرة تكاد لا تظهر إلى جوار المطاعم النيلية العائمة بضخامتها البادية. سألت نفسي سؤالاً وخجلت حين لم أجد له رداً، "هي مصر بقت بتاعة مين؟."







Copy rights Reserved © Mohamed Shady

4 comments:

soly88 said...

عندك حق
العشوائيه انتشرت ليس فقط فى المكان ولكن ايضا فى البشر
فلم يعد شيئا مظبوطا
لا التعليم ولا الناس

Anonymous said...

مصر الجديدة !!!

ياااه مافيش مكان زيها

نلف فى اى مكان وارقى مكان فمصر بس اللى اتولودوا وكبروا فى مصر الجديدة مش ممكن يرضيهم غيرها ...

صحيح اتغيرت كتير بس برضو مسحة الجمال فيها

بواكى شارع الاهرام

امفتريون وجروبى

الكربة بمبانيها القديمة

المريلاند

جنينة المطار

ذكريات رجعتنى ليها

شكرا للمقال المميز

Anonymous said...

مقال واقعي . انا مصرية اعيش بالخارج و بجد مقالك خالني افتكر حاجات كتيرة اوي ف مصر

Anonymous said...

وانا على مشارف الخمسة واربعين
حالة الحوار صعبة مع الناس اجمعين
هاتقولى العيب فى مش فى المحيطين
عشان كده انا ساجن نفسى فى زنازين
ومخليتى هادى خالص لكن كله ع الاذين والبطين
حاسس اتى دقة فدبمة من عصر الفاطميين
مش عارف اتماشى واكون زى الباقيين
بيقولو قلبى حامى والناس بتحب الهاديين
وانا شايف الهدوء برود واكفر بالروتين
نفسى فى حاجة بس فين المناخ المعين
الشارع والجامع والمدرج وديوان الموظفين
الناس كلهم زى مايكونو ضدى مجمعين
تلاقى الدنيا بتجرى بعبط والناس مربوطين
والسمة الغالبة هى اللامبالاه عند البالغين
اما المراهقين همهم الجل والفازلين
وانكترو يبقى الشات او مين غلب مينى
والمصيبة السودة ان الناس مدهونين دين
بس دهان بالدين بعيد عن دين محمد خير العالمين
و يارب احسن ختامى احسن ختامى وقدرنى على مابعد الخمسة واربعين