أحزان أمير المؤمنين - الفصل الثالث

7.10.08 |

بقلم د. إياد حرفوش


"إمام لم يولد"

(1)
المكان ، هو قاعة المحاضرات الأساسية في المؤتمر العلمي الثامن للتاريخ الإسلامي في العاصمة المغربية، القاعة ذات الجدران البيضاء تزينها منمنمات نحاسية، و تتسلل حزم النور من نوافذها الخشبية الصغيرة أعلى القاعة، لتتخذ ألوان الزجاج الملون الذي زينت به النوافذ فتضفي جوا مبهجا على المحفل العلمي، نحن في أغسطس عام 1998م ، أعرض ورقتي العلمية التي أعددتها بعد عامين في العراق الواقع تحت وطأة الحصار الاقتصادي و انتهازية النفط مقابل الغذاء، كانت بعنوان "تاريخية الإمام الثاني عشر"، و الحضور بالقاعة كثيف، ربما جذبهم النجاح الذي حققه بحث العام الماضي، كان بعنوان "الجذور المصرية للعقيدة الدرزية"[1]، و تزامن عرضه مصافة مع انعقاد المؤتمر في بيروت على مرأى و مسمع من دروز لبنان، فأعجب به بعض الموضوعيين منهم و كان للبقية رأي آخر تماماً، و بفضل الفريقين من المعجبين و الساخدين معا تجاوز البحث المحفل الأكاديمي فوصل للصحف و رجل الشارع في لبنان

وقفت خلف البوديوم و بحكم العادة لا الظمأ مددت يدي للكأس أمامي أرتشف جرعة من الماء قبل أن أتجه للوحة عرض الباوربوينت، و استأنفت بعد المقدمة التقليدية قائلاً:
- لدينا أولاً حقيقة مؤكدة في مختلف الحضارات، هي تواتر فكرة إنتظار الآتي بالإصلاح للكون في آخر الدهر، تلك الفكرة العالمية التي مثلت حجر الزاوية في المعتقدات الإيسكاتولوجية[2] المختلفة، حلم رومانسي جميل عن تصحيح مسار البشرية بطريقة إعجازية بطولية قبل أن يسدل ستار النهاية، و هو حلم مفيد بالطبع، يقلل من إحباطات البسطاء و يمنيهم بالصبر فلا يسخطون، و ربما لهذا وجد من يقول به في كل الأديان تقريبا، في الإسلام، و برغم عدم ذكر هذا الموضوع في القرآن، نجد المذهب السني يقول بهبوط السيد المسيح بين يدي القيامة ليقود جيشا من المسلمين فيحكم الأرض بالعدل بعد أن يقتل المسيخ الدجال و يقضي على العدو اليهودي، و كذلك يؤمن البعض بمهدي آخر الزمان، و بأنه سيولد من نسل الرسول و اسمه "محمد بن عبد الله"، أما في المذهب الشيعي فينتظر المسلمون انتهاء الغيبة الكبرى و عودة "المهدي" الملقب بصاحب الزمان ليقود جيش الحق، أما في المسيحية فهناك عودة المسيح و إقامة الملك الألفي، ألف سنة يحكم فيها "يسوع" الأرض بدون شرور أو آثام، بينما اليهود ينتظرون مسيح الرب و ملك اليهود الآتي للمرة الأولى، و الذي يعتقدون أنه لم يبعث بعد لأنهم أنكروا "يسوع" المسيح! و الأمر ليس قاصرا على الأديان الإبراهيمية، فللزرداشتية ينتمي أقدم نص مكتوب على الإطلاق عن أحداث آخر الزمان، نص يرجع لعشر قرون قبل ميلاد المسيح في "زاندي فوهيومان ياشت"[3] و يأتي فيه ذكر غياب الشمس و اضمحلالها، و سيادة الشر بين البشر، و نزع البركة من الأيام و الشهور و السنين، ثم تأتي مملكة العدل و الحق، لكن بدون شخصنة لهذه المملكة في شكل قائد بشري، أما في البوذية فهناك نصوص عن انتشار الشرور و الآثام حتى يأتي بوذا المستقبل، و اسمه "ميتريا" ليقود الأرض نحو الطهر و يجدد تعاليم بوذا في السلوكيات العشر المحمودة و السلوكيات العشر المذمومة، ثم لدينا الهندوسية التي تنتظر عودة "فيشنو" في آخر الزمان متجسدا في أقنومه العاشر "كالكي"، ليقيم مجتمع العدل البشري، و أخيرا لدينا الميثرية التي تنتظر عودة "ميثرا" ليقود جيش النور و يحكم الأرض لألف سنة بالتمام هو الآخر،[4] الجميع إذن يا سادة في انتظار "جودو"، و هذا لا ينفي وجود أفراد في كل من هذه العقائد لا ينتظرون أحداً، و يرون فكرة القادم المنتظر ببساطة بدعة بشرية بحتة، لكن بحثنا اليوم يتناول واحدا فقط من أشكال الانتظار هذه، من خلال بحثنا لتاريخية المهدي المنتظر الإمام الثاني عشر للشيعة الإمامية
تمهلت قليلا لأراقب رد الفعل على مقدمتي تلك فلاحظ همهمات متزايدة تنذر بالكثير من الأسئلة، فسارعت مستأنفا حديثي حتى لا ينقطع الطرح و يضيع السياق:
- برغم اتساع نطاق الرؤية العقائدية لحياة الإمام المهدي، و هي ليست قاصرة على المصادر الشيعية كما يحسب البعض، فالعديد من المصادر السنية قالت بها و منها "ابن خلكان" و "المسعودي" و "الشبراوي"[5]، إلا أنها تحمل العديد من الجوانب الغامضة و المثيرة للريبة، فكما هو موضح أمامكم بشاشة العرض، لدينا العديد من الملاحظات و الانتقادات تاريخيا على الرواية التراثية من جوانب عدة يبينها الشكل التخطيطي، و الشك في الوجود التاريخي للمهدي ليس جديدا، فقد أنكر العديد من الباحثين مثل "هنري كوبان" وجوده أو أنه ولد من الأساس[6]، بل أن من هؤلاء المنكرين علماء من الشيعة الإمامية أنفسهم مثل الأستاذ "أحمد الكاتب" الباحث العراقي بلندن[7]، لكنني اليوم و في سياق هذا البحث أقدم المزيد من الدعم بالأدلة المفندة لعدم وجوده، و هي مفصلة في الورقة المطبوعة أمام سيادتكم، و سأوجزها هنا في عدة نقاط:
الإمام "الحسن العسكري" والد "المهدي" المزعوم تولى الإمامة بعد والده "علي الهادي" لمدة ست سنوات، ثم مات فجأة و هو في ريعان الشباب عن عمر 28 عاما في عام 874 م، و تعترف المصادر الشيعية نفسها بأن الإمام "الحسن" لم يقل طوال حياته أنه تزوج من جارية رومية، و لم يدع أبداً أنه أنجب منها و لا من غيرها، و يبرر منظرو التراث و القائلين بالغيبة هذا قائلين بأن "الحسن" فعل ذلك حفاظا على حياة طفله "المهدي"، و هذا قول تنتابه الريب، لأن خلافة "المتوكل" العباسي كانت أفضل حالا في تعاملها مع أئمة أهل البيت من خلافات عباسية و أموية سابقة و لاحقة، فلماذا لم يخف الأئمة السابقون أبناءهم بينما قرر "الحسن" رغم تحسن الظرف التاريخي أن يخفي ولده؟ ما الذي جد؟ و منذ متى يتهيب أئمة آل البيت الأخطار بإنكار وجودهم؟ فتحسن العلاقة نسبيا بين السلطة و الأئمة في عهد المتوكل تلقي بأول الظلال على دافع الغيبة الصغرى[8] و منطقها
ثم تقول المصادر الإمامية أن أم "المهدي" كانت جارية رومية، أرسل "علي الهادي" أبو "الحسن العسكري" و جد "المهدي" المفترض من يشتريها له من سوق الجواري، و عين له صفتها أن اسمها "نرجس" و هو اسم غريب لرومية، و أن تكون ابنة "يشوع" قيصر الروم، و بغض النظر عن غرابة تصورنا لرجل يبحث عن ابنة لقيصر بسوق الجواري، تكمن المفاجأة في خلو تاريخ الإمبراطورية البيزنطية التي اصطلح العرب على تسميتها بدولة الروم من قيصر بهذا الاسم، كذلك تدعي الرواية التراثية أن "يشوع" هذا هو سليل أحد حواريي المسيح، فهل وجد فوق الأرض قيصر بيزنطي ينحدر من أصل عبراني؟ بالطبع لا، فقبل تاريخ ولادة المهدي بجيلين و حتى عشرات الأجيال بعده كانت الأسرة الماسيدونية تعتلي عرش الإمبراطورية البيزنطية، أما أغرب الصفات التي اشترطها "الهادي" في جارية ولده، فهو أن تكون جاهلة بلسان العرب لا تفقه منه حرفا، ، فما هدف الإصرار على اختيار زوجة رومية لإمام من أسرة هاشمية تعتز بنسبها لتكون أما للإمام الثاني عشر؟ ثم التأكيد على من كلف بشرائها ألا تعرف هذه الرومية من العربية حرفاً؟ لا نجد هدفا مقنعا إلا أن يكون لسانها الأجنبي الذي سيعيق تواصلها مع من حولها أمرا مطلوبا في حد ذاته حتى لا تخطيء هذه الفتاة بكلمة حول أمر له أهمية خاصة، نتج عن ظروف أكثر خصوصية يأتي تفصيلها بعد قليل؟
كان الاهتمام يسيطر على وجوه الحاضرين في مجملهم، بينما ميز "علي" وجوها علاها وجوم يشوبه الغضب، لابد أن هؤلاء ينتمون للشيعة الإثنى عشرية، فمع كونها أكثر طوائف الشيعة اعتدالا إلا أن كل ما يتعلق بالإمامة لديهم للأسف يعد تابو مقدس، تجاهلت تلك التفاعلات المتوقعة و التي أكاد أقول بأني تعودتها، و عدت لطرحي النقدي قائلا:
- الرواية التراثية كذلك تقول بولادة "محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب" في ليلة الجمعة الخامس عشر من شهر شعبان من العام 255 أو 256 هجرية ، لكننا مع البرمجيات الحديثة نجد أن اليوم الموافق للخامس عشر من شعبان عام 255 هجرية كان يوم الخميس و ليس الجمعة، الخميس 28 يوليو عام 869 م، أما لو أخذنا بالاحتمال الثاني لسنة الولادة و هو عام 256 هجرية، فسيكون موافقا ليوم الثلاثاء، 18 يوليو عام 870 م، ففي كل الأحوال لم يولد الإمام يوم الجمعة كما حرص صانع الخبر[9]
فاجأني قيام أحد الواجمين منفعلا بغير طلب الكلمة في اقتحام لم يروق لي كثيرا، كأنه اكتشف سقطة يلج منها للهجوم على أطروحتي، و قال متحمساً:
- من المعروف أن البرمجيات التي تتحدث عنها تحتمل الخطأ بنسبة في حدود اليوم الكامل ، فلماذا تفترض تهافت الخبر الذي قال أن "المهدي" ولد في يوم جمعة، و لا تفترض خطأ البرمجية التي استخدمتها لحساب التاريخ؟ فيكون اليوم هو الجمعة بدلا من الخميس من عام 255 هجرية؟
ابتسم بطريقة حاولت أن أضع فيها من الود ما استطعت برغم المقاطعة و أرد قائلا:
- نعم بكل تأكيد يا سيدي قد تخطيء البرمجيات في حدود اليوم، لكن كم يبلغ معدل الخطأ في الأخبار الشفوية المتناقلة عبر أكثر من ألف و مائة عام؟ و ما هو الأقرب؟ خطأ البرنامج أم خطأ الحكاية الشفوية؟ كما أن البرنامج منزه عن الغرض، لكن حين يتعلق الأمر بثروات الخمس الخاص بآل البيت[10] و التي لطالما جمعت تحت اسم "المهدي" صاحب الزمان، فعلينا ألا ننفي احتمالات الغرض في المشافهات المرسلة، أليس كذلك؟
يضحك بعض الحضور لأسلوب ردي الأكاديمي الذي خالطته نبرة ساخرة، فيجلس السائل دون الإجابة على سؤالي كاظما غيظه ، فأعلق بمودة لم تخلُ من الحزم:
- قلت و أؤكد، أنا لست هنا لأحاول تفنيد فرضيات طائفة لحساب أخرى، فلو كنت أنقد رواية من التاريخ الشيعي اليوم فلقد فلطالما فعلت حول روايات من منظور أهل السنة، كما أني لا أصنف نفسي كسني و لا كشيعي من الأساس، بل كباحث تاريخي مسلم و الحقيقة التاريخية مطلبي و حسبي بها مطلباً، فأرجو أن يتسع صدر الزملاء الأفاضل من الشيعة الإمامية لبحث اليوم الذي يدور حول الإمام "المهدي"، و أنا أعرف من الحضور عددا من العلماء الأجلاء بينهم، نحسبهم من أكثر الناس حرصا على الحقيقة و جرأة عليها حتى لو تعارضت مع التابو العقائدي
قلتها و أنا أنظر بوجه صديقي العراقي الشيعي الدكتور "كاظمي عبد الأمير"، الأستاذ بجامعة بغداد و المتخصص في تاريخ العصر العباسي، فيبادلني النظر مبتسما و لسان حاله يقول: لا فائدة فيك يا "علي" ستظل تلعب بالنار دوما، و لا شك عندي أن وصف العالم الحريص على الحقيقة و الجريء عليها يصدق أكثر ما يصدق في شخص الدكتور "كاظمي" كما عرفته لسنوات، لكننا كنا نختلف دوما حول مواجهة العامة بحقائق التاريخ فيما قد يمس معتقداتهم في قليل أو كثير، فكان "كاظمي" يرى عدم وجوب هذا و أن مهنة التاريخ عندها تنقلب كالصحافة مهنة بحث عن المتاعب، و قد تنتهي مسيرة الباحث الجاد بها على يد وغد جاهل لا يكاد يفقه قولا ، و كنت أحتج عليه في هذا بقول الإمام "علي" رضي الله عنه "ما حاجة الحق لأن يمالئ؟ و إذا مالأ فما ميزته عن الباطل؟"
أنظر لعقارب ساعتي حتى لا أخرج عن نطاق الوقت المحدد لي، فأستأنف قائلاً:
- أنكر "جعفر بن علي" أخو الإمام "الحسن العسكري" أن الإمام قد أنجب ولداً ، و قال بكذب هذه الدعوى و افترائها على أخيه الميت من قبل بعض تابعيه طمعا في المال، فلقبه الإمامية بلقب ممجوج لواحد من آل البيت هو "جعفر الكذاب"[11]، و شيوع اللقب و واقعة الإنكار في كتب الإمامية يثبت حقيقة وقوعها، ثم نأتي للفرضيتين الجوهريتين اللتين تؤكدان أن "المهدي" لم يولد أبداً، الغيبتان الصغرى و الكبرى، فيفترض التراث الإمامي أن الإمام "الحسن العسكري" مات و ولده "المهدي" عمره خمس سنوات، لم يثبت لدينا أن أحدا رآه خلالها في حياة أبيه، و حين مات الأب و أصبح الطفل إماماً لم يخرج من عزلته للقيام بواجب الإمامة، لكن كان له أربعة نقباء بالتتابع ينقلون حاجات الناس إليه و ينقلون تعاليمه إلى الناس، فتاوى و أحكام و آراء، كان هؤلاء النقباء هم "عثمان بن سعيد" ، ثم "محمد بن عثمان"، ثم "الحسين بن روح" ثم "علي بن محمد السمري"، و استمر هذا الوضع 74 عاما بأكملها، أي أن المهدي المفترض عاش حتى بلغ التاسعة و السبعين من عمره و لم يره في هذا العمر المديد مخلوق غير سفرائه هؤلاء الواحد تلو الآخر! فلا رآه خادم له و لا أحد من أتباعه أو حرس بيته عرضا، و استمر هذا حتى مات "السمري" آخر نقبائه عام 944 م، فدخل في غيبة كبرى يفترض أنه فيها ليومنا هذا حي يرزق!
السادة الحضور، نحن أمام موقف دقيق وضع فيه الشخص المحوري في هذه القصة، و هو "عثمان بن سعيد"، شخصية تجمع نقائضا بدورها، فتقول مراجع الإمامية[12] أنه "عثمان بن سعيد العمري الأسدي" و أن نسبه ينتهي للصحابي الجليل "عمار بن ياسر"، و في هذا تناقض بين، فالصحابي هو " عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس العبسي" و قبيلتي أسد و عبس متباينتان فلا ينسب الرجل للاثنين أبداً، المهم أن موت الإمام "الحسن العسكري" بغير وارث للإمامة على غرة و في ريعان الشباب حتم هذا الموقف الدقيق، و لابد أن "عثمانا" تساءل عن وقع هذا على شيعة آل البيت؟ و أثره على تدفق خمس الخمس الذي يدفعه الشيعي كحق للإمام ينفقه فيما يصلح الناس؟[13] لقد أصبح المذهب بانقطاع الإمامة مهددا ، فما كان من "عثمان بن سعيد" إلا أن أنقذ الإمامة بفكرة ذكية للغاية، نحن نرى أن هذا الرجل هو مبتكر القصة كلها، مات إمامه بغير عقب، فأصبحت الإمامة مهددة، و يبدو أن "جعفر بن علب" كان عاطلا من أي موهبة كاريزمية، فيأس منه "عثمان"، أو ربما لم تكن علاقتهما بالود المطلوب، فابتاع "عثمان" جارية رومية، صرح تاجر الرقيق الذي باعه إياها لأصحابه أن الشيخ "عثمان" طلب منه رومية لا تفقه من العربية حرفا و لا تنطق بحرف[14]، و اختلق بقية الشروط كأن تكون ابنة قيصر و من نسل أحد الحواريين كمبرر روحي شديد الإيحاء لاختيارها أما للإمام، ثم ادعى قصة الإمام و غيبته الصغرى، فعارضه "جعفر" و نفى القصة، لكن جاذبيتها الأسطورية كانت كبيرة للبسطاء، كذلك كانت فكرة لا بأس بها للسلطة الحاكمة، فرأى المتوكل في أسطورة الإمام الغائب ضمانا لعدم ثورة الشيعة ضده في غياب قيادة حقيقية، فانحازت الخلافة كما تقول لنا المراجع[15] لتنصر بدعة الغيبة، فاستقر الأمر لعثمان، و جمع من الناس الخمس على هذا الأساس و دام هذا دهرا، ثم حضره الموت فأورث التركة الثمينة لابنه "محمد" من بعده، و استعان "محمد بن عثمان" برجل يدعى "الحسين بن روح النوبختي" على جمع مال الخمس من التجار و وجوه الشيعة، و ربما اكتشف الحسين السر الأكبر عرضاً من طول مخالطته لمحمد بن عثمان، فوكله "محمد بن عثمان" مكانه حين احتضر، و تلاهم في ذلك النقيب الأخير، و هو "علي بن محمد السمري" و الذي يبدو كمن استحى من الكذب و هو محتضر بين يدي الله، فأجاب من سأل عن النقيب من بعده قائلا "الله بالغ أمره" ثم مات، فظهر بعد وفاته خطاب ممهور بالخاتم الذي كان النقباء يختمون به خطابات الإمام للأتباع، يقول فيه الإمام الفرضي لنائبه الأخير "يا علي بن محمّد السمري ، أعظم الله أجر إخوانك فيك ، فإنّك ميّت ما بينك وبين ستّة أيّام ، فاجمع أمرك ، ولا توصِ إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت الغيبة التامّة ، فلا ظهور إلاّ بعد إذن الله تعالى ذكره ، وذلك بعد طول الأمد ، وقسوة القلب ، وامتلاء الأرض جوراً" و هذا الخطاب مغاير للإجابة الفورية التي أجابها "السمري" أولا، قبل أن يجد هذا المخرج و يقرر تكبير الغيبة لتصبح غيبة كبرى، فيكتب هذا الخطاب لنفسه، و الهدف معروف و هو استمرار الطائفة[16]
- يا دكتور أنت لم تأت بدليل علمي غير تباين في التواريخ يحدث كثيرا و اختلاف في نسب أم المهدي، و اعتراض من عم قد يكون طامعا في الإمامة، و أخيرا تهافت في نسب النقيب الأول ، فأين الدليل المادي؟ أنت تتهم قطبا و عالما كعثمان بن سعيد بالنصب بغير بينة، و تنقض عقيدة راسخة عبر القرون بالشبهات
هكذا اندفع ذات الرجل الذي عارض في المرة الأولى، و بنفس الأسلوب المقتحم للمرة الثانية كذلك، ليجيبه "علي" في اقتضاب و ود قليل هذه المرة:
- من يدعي بوجود شخصية تاريخيا هو من عليه إثبات هذا، خاصة لو أن أحدا لم ير الشخص المزعوم، و لا تقع مسئولية التدليل على من أنكر وجود الشخص الغير مرئي، أرجو أولا الالتزام بالمناهج العلمية المتعارف عليها، فنحن نفند روايات تراثية بمقارنة تاريخية و طرح بديل، و هذا منهج معروف لا نبتدعه، فهل تتوقع دليلا ماديا في شكل كتاب بيد "الحسن العسكري" يقول فيه أنه لم ينجب؟ كيف سيوجد مثل هذا الدليل؟ كيف للإمام أن يتنبأ بالكذب على نسبه بعد موته؟ الأولى لو كان هناك ولد، أن يترك والده الذي أخفاه دليلا ماديا لأتباعه حتى يتبعوا هذا الابن و يقروا له بالإمامة بسلاسة، أليس كذلك؟
تتعالى بعض الأصوات المتداخلة بلغط عنيف، ثم .. لقد انقضى الطريق سريعا مع ذكريات الرباط هذه، و بوابات الإسكندرية أصبحت على مرمى البصر، اقتربنا من حيث لقياك يا "ماري" يا "نصف عقلي الحلو"
مع رؤية البوابات قاب قوسين ردد "علي" بيتين من شعر "قيس بن الملوح":

تلكم الربوة كانت ملعباً ... لشبـــابينا و كانت مرتعـــا
كم بنينا من حصاها أربعاً ... و انثنينا فمـحونا الأربعـــا
و خططنا في نقى الرمل فلم ... تحفظ الريح و لا الرمل وعى
قد يهون العمر إلا ساعة ... و تهون الأرض إلا موضــعا

(2)

عندما انتهى الطريق المتهالك رغم تجديده أكثر من مرة و أشرف "علي" بسيارته على شاطئ "أبي قير" الرملي، كانت الشمس ترسل النذر الأخير من أشعتها المتهالكة في ظلمة الليل فلا تكاد تضيء، أضاء الأنوار الكاشفة و هو يدلف بالسيارة يسارا على الشاطئ الرملي الذي دكته السيارات و يسير بمحاذاة البحر، ماراً على العديد من مطاعم المأكولات البحرية الرائجة، من واحد منها على صوت الكاسيت لتقتحم أذنيه أغنية من التي كانت تسمى سوقية ذات يوم .. "حط النقط على الحروف .. قبل ما نطلع سوا ع الروف" فيغلق زجاج السيارة متأففاً، إنه زحام يوم الخميس التقليدي، تمنى ألا تكون الربوة مقتحمة اليوم بغيرهما، فبعد كل هذه المدة يحتاج لحوار مع "ماري" لا يعكر الزحام و الهرج صفوه، و عندما قارب الشاطئ على الانتهاء لاحت الربوة، أو التي يحب "علب" أن يدعوها ربوة و هي للدقة تبة رملية مرتفعة قليلاً يوجد أسفلها مقهى و مطعم "النورس"، و حين رأى أحد النادلين سيارة الدكتور و تحقق منه داخلها فرآه، اندفع نحوه صائحاً بنبرة اسكندرانية مرتفعة:
- ده إيه النور اللي هل على إسكندرية الليلة ده يا دكتور؟ إيه الغيبة الطويلة دي يا باشا؟
يبتسم "علي" بود و هو يرد:
- ازيك يا "قدارة" و ازي العيال و أمهم؟
- يبوسوا الأيادي يا دكتور
- العفو يا أبو زين ، التبة فاضية؟
- مستنياك يا ريس؟ هوا هاكون جهزتلك القعدة سلطاني
- تمام
- تحب أوصي ع العشا دلوقت؟
- لأ شوية كده علشان الدكتورة جاية، هانشرب حاجة و بعدها نشوف
- تأمرني يا كبير
و خلال لحظات بالفعل كان "قدارة" قد أعد فوق الربوة جلسة منعزلة عن المقهى بأسفل، فبسط قطعا من الكليم العربي، ثم وضع فوقها طاولتين متلاصقتين و نصب فوقهما مظلتين علق بأحدهما بانادوسة[17] كبيرة و بالأخرى صاعق ناموس كهربائي، ثم فرش المفارش البيضاء النظيفة على المناضد و رص أربعة كراسي معدنية لامعة ذات كسوة جلدية حمراء، كان قد أخرجها للتو من الكشك الخشبي خلف المطعم، ثم أشار للدكتور "علي" ليتفضل ، فغادر السيارة منتعشا و مبتهجا بالجو و متطلعا للقاء افتقده كثيرا، و لم تمر لحظات بعد جلوسه حتى كان الكوب الزجاجي الكبير قد وضع أمامه تتصاعد منه أبخرة الشاي الأحمر، و بجواره زجاجة المياه المعدنية "المشبرة" ببخار الماء المتكاثف على برودة سطحها، ثم ثبت "قدارة" الشيشة المترعة بمعسل العنب على يمين "علي" و مد له "اللي"، ثم هرول للكشك الخشبي و عاد بجهاز كاسيت قديم أسود اللون وضعه على أحد الكراسي الخالية ثم توجه للدكتور سائلاً:
- نسمعوك إيه يا دكترة؟
- معاك إيه للست يا "قدارة"؟
أجاب "قدارة" و هو يقلب الشرائط بين يديه:
- إنت الحب ، سيرة الحب ، الأتلال (الأطلال و لكنه هكذا نطقها) و إنت عمري ، الحب كله ، ثورة الشك و ..
- بس، شغل "الحب كله"
- تأمرني
بعد لحظة كان صوت الكاسيت الهادئ يملأ الجو حوله بصوتها العميق الرقيق الأسطوري ، صوت الشجن و النشوة و هي تقول:

واسقيني و إملا اسقيني تاني ، من الحب ، منك ، من نور زماني
اسقيني ياللي من يوم ما شفتك ، حســــيت كأني اتخلقت تاني

قطع صوت "قدارة" شدو "أم كلثوم" و هو يقول:
- أي أوامر تانية دلوقت يا دكتور؟
- عشت يا أبو "زين" خلي عينك بس على عربية الدكتورة
- تأمرني يا كبير
يسترخي "علي" بمقعده و هو ينظر بساعته، ما زال أمامه قبل وصولها نصف ساعة بأكملها، ليتها تصل مبكرة فترى لون الشفق الذي تحبه على ماء خليج أبي قير، هكذا تمنى و هو يرشف من كوب الشاي و يتأمل في البحر، يشعر بصدره يضيق قليلا من رطوبة بحر الإسكندرية، إنها حساسية الصدر السخيفة رفيقة عمره، فيخرج البخاخ الموسع للشعب الهوائية من حقيبة يده السوداء و يضعه على فمه ثم يستنشق مرتين من المحلول الموسع للشعب، و يستقبل بعدها نسيم البحر الساحر في رئتيه بشهيق أعمق و لذة أكبر، يتلهى بمداعبة قطع الفحم الدقيقة من فروع شجر الفواكه سريع الاشتعال، و يأخذ جرعة رائقة من الدخان و يستمر في رشف الشاي، يستدعي خليج "أبي قير" لذهنه دوما صورة الحملة الفرنسية و "نابليون بونابرت" المغامر العسكري العبقري، علت شفتيه ابتسامة و هو يتخيل صورة "نابليون" التي رسمت له و هو بالجلباب و العباءة و العمامة تفضحان قصر قامته المميز بعد أن ادعى الإسلام! كيف فطن هذا الفرنسي لمدخل التقرب و التودد الديني؟ لعل هذا هو ما يصنع الفارق بين العظماء و المجهولين في تاريخ البشر، القدرة على قراءة الواقع و تحليله و النفاذ منه إلى الوسيلة التي تحقق الهدف، زادت ابتسامته اتساعا و هو يردد في عقله خطاب نابليون لأهل مصر الذي أرسله بواسطة علماء الأزهر، و فيه قال:
"بسم الله الرحمن الرحيم لا اله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في ملكه (هكذا تنصل الوصولي من كاثوليكيته) ، قولوا لأمتكم أن الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في روما الكبرى وخرّبوا فيها كرسي البابا الذي كان دائماً يحّث النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطة فطردوا منها الكوالليرية الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين، ومع ذلك فإن الفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني أدام الله ملكه، أدام الله إجلال السلطان العثماني، و أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي، و لعن الله المماليك أعداء السلطان، و أصلح حال الأمة المصرية"


و هكذا فالإجلال و التعظيم للمحتلين التركي و الفرنسي، أما الأمة المصرية فغاية ما يرجى لها هو صلاح حالها على يد العارف بالله "بونابرت"، و الذي تسمى في ثوبه الجديد باسم يناسبه هو "علي باشا بونابردي" و كان يتردد على المساجد في أيام الجمع للصلاة، و يمشي بحرس قليل في الأسواق، فهل الذي ترجم هذا الكتاب من الفرنسية للعربية هو ذاته الذي أوحى للفرنسيين بحيلة اعتناق الإسلام، فكل من "تاليرون" وزير خارجية فرنسا و الذي نصح بالتودد للمسلمين في خطته التي قدمها لاحتلال مصر، و "شارل ماجلون" القنصل الفرنسي في مصر و الذي اقترح الحملة بالأساس، لم تكن مداركهما تعي الثقافة المصرية بهذا العمق لولا تعاون من شخص مصري، شخص يعلم يقينا أن المصريين يقبلون بحكم الترك لأنهم مسلمون، فلماذا لا يحل الفرنسيون محل الأتراك؟ نفس هذا الدرس وعاه الجنرال "مينو" فيما بعد ، عندما قتل "سليمان الحلبي" الجنرال "كليبر" المتكبر الذي استهان بالمقدسات و دخل الأزهر بالخيول و كشف عن الوجه الحقيقي للمستعمر في قمعه لثورة القاهرة، خلف "مينو" سلفه ليعيد حقن نفس المخدر في عروق مصر الثائرة، فصدق على إعدام "الحلبي" بوضعه على الخازوق بعد حرق يده اليمنى، و تركه على الخازوق في موضع يقال له "تل العقارب" حتى نهشت الجوارح لحمه، ثم ما لبث بعدها أن هداه الله فجأة فأسلم و حسن إسلامه و تسمى باسم "عبد الله جاك مينو"، بل زاد فتزوج من ابنة أحد أعيان رشيد، و رزق منها ولدا فأسماه "سليمان" لتكتمل التراجيديا، و أقنع من حوله أنه اختار هذا الاسم لولده تخليدا لذكرى "سليمان الحلبي" الذي خوزقه هو بأوامره! لقد فطن "مينو" للعبة الإسلام السياسي القديمة، و فهم أن خلفاء الأمويين و العباسيين الذين دجنوا الفقه الديني ليوافق حكمهم جعلوا من الخروج على حاكم مسلم أيا كان شكله أو لونه أو فعائله خروجا عن الدين يستحق فاعله القتل، فالمسلم لا يشق طاعة حاكم مسلم، فإن أحسن الحاكم المسلم فله الأجر و على الرعية الشكر، و إن أساء فعليه الوزر و على الرعية الصبر[18]، فقط الصبر! فملاذا لا يتخذ "مينو" من هذا الفهم المعتل للدين مطية للاحتلال؟ توفر عليه الدماء و الأموال؟[19]
توقفت أفكار "علي" حين لمح طيفا محببا يتقدم نحو الربوة، ينظر بجماع عينيه فتعلو شفتاه ابتسامة رائقة ليست كابتسامته في كل حين، و تلوح له بيديها فيرد ملوحا و هو يراها تقبل نحوه في بنطلون أبيض رقيق يناسب لون الحذاء الرياضي و تي-شيرت أزرق فوقه جاكت خفيف بلون رمادي فاتح، و قد أرسلت شعرها البني اللامع المرسل في إطار عبقري حول وجهها الناصع البسام، كانت "أم كلثوم" في هذه اللحظة تشدو خلف أذنه بقولها:

يا أرق من النســمة .. و أجمل من ملك
إنت روحي و كل عمـري .. و نور حياتي
يا حــياتي .. إيه أنا بالنســــبة لك؟

لطالما كنت جميلة و رشيقة يا "ماري ماكسميليان"، أجمل عالمة رآها أو لعلها أعلم جميلة، يأتي صوتها و قد اقتربت قائلة:
- الصيف بيودع آخر أيامه و الجو مايل للبرد يا عاشق الهواء الطلق
تتجه نحوه مصافحة و يتبادلا قبلتي تحية على الوجنات، ثم تندفع "ماري" قائلة و هي تجلس على الكرسي قبالته لتتمم جملتها ضاحكة:
- لسة بتخاف تقبل دعوة "ماري" على العشا في البيت؟ علشان الخواجاية الشريرة مش تفترسك و تنتهك عفافك؟ و تفضل تتجمد هنا في البرد؟ مع إن البلكونة عندي في زيزينيا دلوقت حتة من الجنة
رد "علي" و هو يحيط وجهها بنظرات عينين حانيتين:
- يا ستي أي مكان تكوني فيه هيبقى حتة من الجنة نظرا لتوفر صنف الحور، ثم و الله لو كان علي أنا كان نفسي تفترسيني من زمان قوي
قالت و هي تشعل سيجارة من علبته التي أمامها ، و تتسع ضحكتها الرائقة الحبيبة لقلبه:
- آه .. بعد ما نتجوز .. افتراس شرعي يعني
- بالظبط .. و حضرتك اللي رفضتيني
- "علي" .. مش لازم كل شوية تقول رفضتيني دي؟ برغم إنك عارف إنها بتضايقني و إنها كمان مش صحيحة؟
- فيه شاعر فلسطيني اسمه "محمود درويش" كان ..
- هاي يا دكتور، أنا مش سايحة أمريكية، عارفة "محمود درويش" و عندي ليه ديوانين كمان يمكن
- مش غريبة عليكي يا "نص عقلي الحلو"، المهم "درويش" حب فتاة إسرائيلية، لكن طبعا حال ما بينهم الصراع العربي الإسرائيلي، فكتب درويش قصيدة قال فيها "بين ريتا و عيوني بندقية .. والذي يعرف ريتا ينحني .. ويصلي لله في العيون العسلية" متهيألي أنا بقى ممكن أقول على نفس المنوال ده "بين ماري و عيوني ذكرى أم .. و فلسفة وجودية، و الذي يعرف ماري يرى نور الإله .. بوجه المجدلية"
مع هذا البيت بدا التأثر واضحا على نظرة "ماري" التي حل الحزن فيها محل الغيظ من ذكر الرفض الذي كان منذ لحظة يطغى على رقة العينين، قالت و في صوتها تهدج خفيف:
- أوه .. علي .. بليز بلاش كده
قالتها و هي تشيح بعينين متأثرتين ، فرد علي مسرعاً من فوره:
- أوكي .. أوكي، خلاص يا ستي خلصت المعاكسة بتاعة النهاردة، خلاص بقى
نظرت له "ماري" و ابتسمت و هي تومأ برأسها باقتضاب ، فالتفت "علي" بوجهه مناديا النادل لينهي الموقف الذي علاه الشجن، ثم للحظة شرد كليهما، لقد تقدم "علي" لماري يطلب منها الزواج في العام التالي على تعارفهما، كانا قد أدركا أنهما متحابين و أن كلا منهما يود الحياة بجوار الآخر، كانت تخطط للحياة في مصر بعد انتهاء دراستها بالمملكة المتحدة لفترة طويلة حتى تتم دراساتها العربية، و كانت النموذج الوحيد الذي قارب "الباندورا" التي تمناها، فلم يكن يعيبها غير روحانيتها المحدودة رغم رهف روحها و عاطفتها الجياشة، لكنه تنازل عن هذا الجانب أمام كل ما وجده فيها من عقل و عاطفة و تفاهم و تناغم سرعان ما تطور بينهما، و عزم على محاولة تعديله لو قدر الله لهما أن يقترنا، فتقدم لها، و فوجئ مفاجأة مؤلمة بردها في تلك الليلة الإنجليزية الباردة التي طمسها الضباب حين أجابته بأنها لا تستطيع و إن كانت تتمنى، سألها شغوفاً بمعرفة السبب الذي يحول دون سعادتهما معاً:
- ليه "ماري"؟ كل شيء خلال الشهور اللي فاتت كان بيقول انك .. أقصد ..
- أيوة يا "علي" .. بحبك .. مش هاخجل أقولها لك أيها الشرقي الذي يستأذن قبل أن يطبع قبلة على خد حبيبته .. بحبك .. ده صحيح و مش مكسوفة و أنا بقولها بالعكس، ممكن أكون فخورة بكده
- يبقى إيه سبب الرفض؟ هاتصدم لو كان السبب عنصري!
قالها "علي" مازحا في مرارة، و لدهشته أجابت "ماري" بما هو أغرب و أكثر مرارة حتى من السبب العنصري، ردت قائلة في تلعثم من حرج الموقف و ألم الذكرى معاً:
- مش بالظبط .. السبب ديني يا "علي" .. ديني مش عنصري
- ديني؟ إنت يا "ماري" بتفكري كده؟إنت؟ بكل عقليتك و ثقافتك و موقفك من الدين عموما، بترفضي الارتباط لمجرد إني مسلم؟
- أوه سوري، لا يا "علي" إنت فهمتني غلط مش علشان إنت مسلم، لكن علشان إنت معتقد بصفة عامة، يعني لو كنت مسيحي كنا هنواجه نفس المشكلة برضو
- مش فاهم؟
- أنا مرتبطة بوعد وعدته لأغلى إنسانة في حياتي، لأمي، للست اللي عملت كل حاجة و ضحت بكل حاجة علشاني أنا، أمي يا "علي" كانت مثقفة وجودية متطرفة و على عكسها كان والدي بروتستانتي متشدد، حبوا بعض أيام الجامعة و اتجوزا قبل ما شخصياتهم تتبلور، و يمكن ده اللي خلاهم الاتنين يميلوا للتطرف الفكري، كل واحد كان بيتصرف و كأنه في حالة حرب مع الآخر، لأن الآخر ده هو أقرب الناس ليه، فكان بيرفض فكره كرفض للهيمنة بحكم الزوج، مقدروش يخلقوا تعايش سلمي، فعاشت أمي معاه في جحيم طول عمرها، لكنها اتحملت علشاني، كانت حياتي و حياتها بدون دعمه المالي و في ظل القوانين وقتها هاتبقى صعبة قوي، كانت هي شايفة إن التربية الدينية هي اللي أفسدت شخصيته، و من خوفها علي طلبت مني و هي على فراش الموت إني ماربطش مصيري أبدا برجل يؤمن بقوى خارجة عن ذاته، بأي رجل يؤمن بإله أو كائن فوقي من أي نوع و بأي شكل، و طلبت وعدي بكده .. و وعدتها
أجاب "علي" الذي كان كالمشدوه من المنطق العجيب الذي تتحدث به:
- "ماري" .. إنت بتتكلمي بجد؟ هو ده السبب؟
- إيه يا "علي"؟ شايف إن الوفاء بوعد لأمي الميتة سبب غير وجيه؟ غير مقنع؟
- لأ شايف إن مجرد حكم الموتى لحياة الأحياء طوطمية بدائية، و إن تقييم الإنسان على أساس ديني و رفضه لأنه يؤمن بالله هو تطرف لاديني مايقلش سخافة عن التطرف الديني إذا ماكانش أسوأ، من إمتى الوجودية انقلبت لطوطمية جديدة؟
- "علي" بليز افهمني، الموضوع مالوش علاقة بالوجودية، له علاقة بمعاناتها مع رجل كانت كل حاجة في حياته تدار بقوى فوقية و كل حدث يفسر تفسيرات باطنية، راجل هو كمان مسكين لأنه كان ممكن يكون كويس قوي مع أي ست تانية، بس مش معاها، مش مع "سابين" لأنها كانت ست مختلفة جدا، مثقفة و مفكرة و مبدعة و واقعة في غرام معتقداتها الفكرية لأبعد حد
أفاق "علي" من الذكرى على صوت "قدارة" الذي حضر ملبياً، فابتسم و هو يشير نحو "ماري" قائلاً:
- سيدة الحفل تختار الطعام للجميع، تفضلي يا مولاتي

---------------------
[1] نتجت عقيدة الدروز ، و الذين يرفضون هذا الإسم و يسمون أنفسهم بالموحدين من اختلاط الإسلام على المذهب الإسماعيلي الباطني بالفلسفات اليونانية و الأديان الهندية القديمة ، و قد بدأت بذورها من الدولة الفاطمية في مصر و شخصية الحاكم بأمر الله المليئة بالتناقضات الحادة – عن كتاب "مذهب الدروز والتوحيد" للكاتب الدرزي "عبد الله النجار" و كتاب "الشيعة الدروز" لممدوح الحربي
[2] العلم الذي يدرس نظريات نهاية التاريخ في مختلف الأديان
[3] الكتاب الأعظم للفلسفة الزرادشتية
[4] كل ما ورد معتقدات موجودة لدى كل مذهب بالفعل
[5] معلومة حقيقية
[6] معلومة حقيقية
[7] معلومة حقيقية
[8] الغيبة الصغرى هو التعبير الاصطلاحي عن فترة احتجاب "محمد المهدي" عن الناس في حياة نقبائه حتى مات آخرهم، فبدأت الغيبة الكبرى و انقطعت الوساطة المفترضة بينه و بين أتباعه
[9] الحساب صحيح علمياً، و الإشارة هنا لحرص صانع الخبر على مطابقة الحديث المروي عن الرسول بخصوص مهدي آخر الزمان من أنه يولد يوم الجمعة و يطابق اسمه اسم النبي "محمد" (ص)
[10] يخصص الشيعي المتدين من ربحه خمس الخمس (أربعة بالمائة) للإمام من أهل البيت أو من ينوب عنه ليصرفها الإمام فيما يراه من أوجه الخير، و هذا فضلا عن فريضة الزكاة بأنواعها
[11] حقيقة تاريخية و موجودة حتى اليوم في كتب تراثية مثل كتاب "ثاقب المناقب" لمحمد بن علي الطوسي
[12] العقائد الجعفرية للطوسي
[13] معلومات حقيقية مؤصلة من المراجع الشيعية و السنية معا
[14]
[15]
[16] كل ما ورد مؤسس على معلومات تاريخية صحيحة – عن كتاب "كفاية الموحدين" و "كتاب الغيبة" لمحمد بن إبراهيم النعماني
[17] لمبة كهربائية موصلة بمصدر تيار بسلك طويل كالتي يستخدمها ميكانيكي السيارات في العامية المصرية
[18]
[19] حقائق تاريخية وفقا لروايات الجبرتي و كتاب "مائتا عام على الحملة الفرنسية ، رؤية مصرية" للدكتور "ناصر إبراهيم

0 comments: