فين السنيورة ؟

12.7.08 |



بقلم د. إياد حرفوش

نعرف جميعا لعبة الثلاث ورقات ، و التي كان النصابون في الموالد يستنزفون بها أموال السذج في لعبة هي نوع من أنواع القمار الشعبي الرخيص، و تعتمد على خلط الأوراق، فيريك اللاعب الثلاث ورقات و منهم ورقة الدام ، و هي المدعوة شعبيا بالسنيورة، ثم يضع الأوراق بسرعة أمامك مقلوبة بخفة يد و مهارة حتى يلتبس عليك مكان السنيورة فتخسر القرش الذي راهنت به، و برغم كونها لعبة منقرضة، إلا أني لم أجد تشبيها أفضل منها لما يقوم به الإعلام المصري و العربي من خلط أوراق عمدي لتضليل الناس عن حقيقة العلمانية و الإلقاء بالظلال على وجهها، ليغطوا بذلك على حقائق التاريخ التي تدعمها وجوبا ، فيخلطوها دوما بالإلحاد و اللا-دين، أو يذهبون لما هو أبعد فيخلطونها بالتيارات الضد-دينية، و هذا فضلاً عن الخلط الذي نحسبه عن جهل أكثر منه عن سوء نية بين الليبرالية و العلمانية ، و الشتان بين هذه المفاهيم الأربعة كبير خاصة الثلاثة الأوائل



و نحن نزعم أن بداية التآمر على سمعة العلمانية كانت منذ ترجمت لهذه الكلمة من اللاتينية "سيكيولاريزم" و التي كان الأنسب أن تترجم إلى "عقلانية" و لكنها ترجمت حرفياً إلى "الزمنية" قديما، ثم أعيدت ترجمتها للفظ غريب عن اللغة العربية و بلا معنى تقريبا، هو "علمانية"، فلا هي نسبة للعلم و لا للعالم، و لا يوجد مصدر رباعي في العربية اسمه "علمن" لنشتق منه هذا الاشتقاق؟ ربما كان السبب أنها ترجمت على يد أعدائها قبل أصدقائها، لكن من الصعب أن نجزم بذلك

مبدأ لا مذهب


من غريب القول أن تجد الواحد من مشايخ الفضائيات يقارن بين أشخاص أو اتجاهات أو رؤى فيقول هذا إسلامي أو مسيحي و هذا علماني، و وجه الغرابة أن العلمانية ليست مذهبا محدد الإطار كالدين السماوي أو المذهب الفلسفي أو الاجتماعي، العلمانية مبدأ، يقوم على تنظيم شؤون الدولة و المجتمع بالاحتكام لرأي العلم و المنطق البشري، و على ألا يكون لرجال الدين سلطة رقابية أو تنفيذية على مؤسسات المجتمع المدني، و هو مبدأ دستوري موجود في دساتير أكثر من 80% من دول العالم بجميع مستويات تقدمها، ببساطة لأن تجربة التاريخ أثبتت أن علمانية الدولة تضمن لكل معتقد حرية اعتقاده بعيدا عن تحرك السلطة من طائفة دينية أو عرقية لأخرى، و هذا المبدأ هو ذات ما دعا إليه الرسول الكريم (ص) أكثر من مرة إذ ردد "سبحان الله ... أنتم أدرى بشؤون دنياكم" مقراً مبدأ الاحتكام للدين فيما يخص سلوك الفرد الشخصي و عباداته و أخلاقياته ، و الاحتكام للعقل و التجربة و الخبرة فيما يخص تنظيم التجارة و الزراعة، و اللتان ورد هذا التعليق بخصوصهما تحديدا، و بكافة مناحي الحياة قياساً على ذلك ، فلماذا نلقي في روع الناس أن عليك الاختيار بين دينك و العلمانية؟ بإمكان كل مسلم تقي و كل مسيحي مخلص أن يكون علمانيا من حيث المبدأ و دينيا من حيث التوجه الفكري ، فالتعارض بين المبدأ العلماني و بين أي مذهب من المذاهب الدينية أو الفكرية مصطنع تماماً

العلمانية و الليبرالية
أوضحنا أن العلمانية مبدأ عام في إدارة شؤون دولة و ليس مذهبا دينيا و لا فكريا، أما الليبرالية، و التي يكثر خلطها به شرقا و غربا، أما الليبرالية فهي مذهب سياسي، يضع حرية الفرد في المقام الأول بين غيرها من الاعتبارات في حكم الدولة، و نقيض الليبرالية ليس الفكر الديني أبدأ، و لكن نقيضها هو الفكر الشمولي الذي يعطي للدولة الحق في التدخل في حياة الفرد للحد الأقصى بتبرير الصالح العام ، و مصالح الدولة العليا و غيرها من الشعارات البراقة، و التي لم تستخدم في أغلب الحالات إلا لخدمة أهداف خاصة جدا بمن أطلقوها، و تقع المذاهب الشيوعية كالاتحاد السوفيتي السابق في نطاق الشمولية، لفرضها نموذج النشاط البشري بالكامل و ما يستتبع ذلك من تعليم و إعداد و تدريب لحاجات الدولة كما يقدرها الحزب الحاكم، و كذلك تقع الأنظمة الشمولية الكهنوتية كالمملكة العربية السعودية في ذات الإطار ، لا لشيء إلا لظاهرة المطوع و التي فشلت في المملكة نفسها و أصبحت تخطو حثيثا نحو الفناء ، و لعلنا نقول أن الخلط بين العلمانية و الليبرالية له ما يبرره و لا نظنه يحدث عن سوء نية، فهو خلط عالمي، سببه ظهورهما في توقيت متزامن، و وجود رواد مشتركين كتبوا في العلمانية و الليبرالية، و كذلك ضرورة الأخذ بالمبدأ العلماني لتطبيق الفكر الليبرالي، لكن العكس ليس صحيحا، فالنظام السوفيتي السابق كان علمانيا مع كونه شموليا

اللا-دينية و الضد-دينية
و هذان مفهومان يكثر الخلط بينهما من جانب، و خلطهما معا بالعلمانية من جانب آخر ، و هو خلط ليس له ما يبرره، لأنها مفاهيم متباعدة ، لذلك لا نحسن الظن بمن يزج بالعلمانية في حديثه كمرادف أو مكمل لأحد هذين المفهومين، و اللا-دينية هي الفكر الذي ينكر وجود خالق للكون خارج نطاق هذا الكون، و ينكر بالتبعية البعث و الحساب و الثواب و العقاب ، و قريبة منها اللا-أدرية و التي يعتقد أصحابها أن الإجابة على سؤال وجود الخالق من عدمه تحتاج إلى براهين ليست متاحة لدينا و لا ينتظر أن تكون متاحة مع البحث عنها، لهذا لا يرفضون القول بوجود خالق كما لا يقبلونه أو يتحمسون له ، أما التيار الضد-ديني فهو تيار فضلاً عن إنكار الأديان و القول بأنها نتاج فكري بشري محض، يرى في الدين ذاته شرورا و يطلب مواجهة و محاربة هذه الشرور، و إلى هذا ينتمي كل من ترونهم على مواقع الإنترنت يهاجمون الأديان و يسخرون من أصحابها و يدعون ارتباط الإلحاد بالتقدم و الإيمان بالتخلف، إلى آخر هذه الضلالات الفكرية التي لا تقل خطراً و لا سخفاً عن التطرف الديني في كل الأديان

النموذج التركي


إلى التيار الضد-ديني ينتمي القائد التركي "مصطفى كمال أتاتورك" الذي كان برغم فضله الكبير على الدولة التركية الحديثة كمؤسس لها و باعث لنهضتها، ينتمي للفكر الضد-ديني ، فيتهكم علنا على القرآن الكريم و يسخر من مبادئه و من الدين بصفة عامة ، و استطاع "أتاتورك" أن يثبت مبادئه تلك خاصة في مؤسسات القضاء و الجيش و هما مؤسستان محوريتان لضمان عدم الارتداد على خطه بعد موته، و كان له ما أراد من وقتها و حتى اليوم ، لهذا يحسن بنا أن نفرق بين دولة المؤسسات العلمانية في تركيا و بين التيار الضد-ديني في المؤسسات التركية خاصة الجيش و القضاء و جزء كبير من سلك الجامعة ، و النموذج التركي تحديدا لكونه الأقرب جغرافيا هو النموذج الذي يكثر المتأسلمين من ضربه مثلا مشوها للعلمانية التي ترفض الدين ، بينما لا يضربون المثل بعلمانية "لندن" التي عاش فيها قادتهم برغم احتقار العالم لهم، لكن ذلك لم يؤثر على حقهم في الحياة من المنظور العالمين، فعاشوا في ظل العلمانية التي يسبونها آمنين

نحن لا نريد من تركيا نزعتها الضد دينية يا سادة ، لكننا نريد الدولة المدنية التي أخرجتها من غمار العالم الثالث إلى بوابة الإتحاد الأوروبي