الدين: بوصلة أم وتد

2.7.08 |


بقلم وائل نوارة

الاتجاهات والمقاصد والنسبية الزمانية والمكانية للأحكام

يخرج علينا بعض الشيوخ والدعاة الفضائيون بأحكام لا تتفق مع المنطق أو العقل أو الفطرة أو الذوق السليم، ويستشهدون في ذلك بالكتب الصفراء والأحكام التي ترجع للقرن الثالث أو الرابع الهجري، قبل قفل باب الاجتهاد. وهذه الأحكام تصيب بعضنا بالذهول، وقد يستجيب لها البعض مضطراً على مضض، بينما نجد أيضاً من يلفظها ويرفضها وقد يرفض الدين كله نتيجة لما يراه من بعدها عن الفطرة السليمة أو المنطق العقلاني

والأمثلة كثيرة في فتاوى شرب بول الرسول وإرضاع الكبير وغيرها من أمور مخجلة ومشينة
ولا شك لدي في أن الرسول الكريم (صلعم) كان دمث الخلق لطيف المعشر رحيماً كريماً حليماً
وأن دعوته كانت دعوة ثورية في وقتها لتحرير الإنسان، وإعمال العقل، وتحرير النساء والعبيد، ونشر المساواة بين بني البشر جميعاً. وقمة التحرر كان التحرر من السلفية المقيتة، فقد كان أهل قريش يقولون إنا رأينا آباءنا يفعلون كذا وكذا، فدعاهم الرسول لمكارم الأخلاق

ولم يكن من الممكن أن تحدث كل هذه التغيرات الثورية في 23 عاماً هي عمر الدعوة، فترك لنا الرسول من القرآن ومن سيرته ما يبين مقاصد دعوته، ليس كأحكام وأوامر ونواه، بل كاتجاهات ومقاصد، تتماشى مع الفطرة السليمة للإنسان، وتتفق مع الضمير والقلب والعقل. فمعظم الأحكام والأوامر والنواه تخص عصرا بعينه، بما يتماشى مع مقاصد الدعوة التي تتناسب مع ذلك العصر. فالأحكام مثل النقاط الثابتة في عصر معين. أما المقاصد، فهي توجهات أو اتجاهات التي عندما تتقاطع مع أي إحداثي زمني في مكان معين، ترشدنا لما يمكن أن نفعله في ذلك الزمن. وهذه هي النسبية الزمنية والمكانية في الأحكام


فلم يتيسر مثلاً أن يقوم الرسول بتحريم الرق، وإن كانت كل سيرته تدل على أن تحريم العبودية لغير الله وحده، وتحريم الرق، وعتق الرقاب في كل مناسبة، هي مقصد اصيل من مقاصد الدعوة. فلا يمكن أن نأتي اليوم ونقول أن الإسلام قد أحل العبودية لأنها كانت موجودة أيام الرسول. إذا فعلنا ذلك نكون كمن يتشبث بوتد مدقوق في الأرض بينما هو يحاول أن يمشي ليجاري تطور الزمن

أما معظم الشيوخ والسلفيين، فهم ينظرون للدين نظرة جامدة استاتيكية، لا تتطور مع الزمن، ويريدون أن يلزموا الناس بأحكام كانت تخص أزماناً وأمكنة وحضارات أخرى، وهذا التوجه، إنما يصيب الدين في مقتل، لأنه يؤدي أن ينفصم الدين عن الواقع الإنساني، فيهجره كل ذي عقل، ويصيب التخلف من يتمسكون به، فيهلكون وتنتهي الدعوة بهلاكهم. وهذا هو أكبر خطر في نظري يواجه الدين، فتجميد الدين يجعله مثل الأديان السابقة التي انقرضت لأن اصحابها تجمدوا عند نقطة معينة

وبالتالي، فإن مثل هؤلاء الشيوخ هم أكبر خطر على الدين لأن كل ما يقومون به هو الحفظ والاستظهار، أما التفكر والاجتهاد، فقد أغلق بابه منذ عشر قرون، تغيرت فيها الحضارة الإنسانية بصورة مذهلة، فتجمد المسلمون وتوقفوا عن السير حضارياً، وأصابهم التخلف، فضعفوا وأصبحوا مطمعاً لكل غاز وناهب

وليس من الصدفة في شيء أن جميع الدول الإسلامية تعاني من التخلف الشديد بكل المقاييس، لأن هذا هو نصيب من يرفض التطور ويتمسك بالنقل والعنعنة، ويحارب الفكر، مثلما رأينا من قبل مع الكنيسة الكاثوليكية، ولم يتطور الغرب إلا مع التحرر من سطوتها وإطلاق العديد من المبادرات الإصلاحية لمراجعة فلسفة الدين ودوره في حياة الإنسان

الدين إذن مثل البوصلة التي ترشدنا للاتجاه، وليس كالوتد الذي يثبتنا في الأرض فنتوقف عن المسير، أو ننكفئ على وجوهنا بفعل التباين بين طبيعة الزمن الذي يتحرك للأمام، وأحكام الشيوخ الذين يريدوننا أن نتشبث بذلك الوتد الذي لا يعرفون غيره

هل الدين مقيد للإنسان؟

الدين مقيد للحريات إذا نظرنا له كتعاليم وطقوس وأوامر ونواه ثابتة عبر الزمن. وفي نفس الوقت الدين أيضاً عادة ما يمثل ثورة إصلاحية على قيود عصره، فالإسلام مثلاً حرر العرب من التفكير السلفي، فالعرب كانوا يقولون إنا رأينا آباءنا يعبدون الأصنام. وهنا تبرز فكرة نسبية الزمان والمكان. فلو أخذنا بمقاصد الدين كاتجاه وليس كنقط ثابتة في الزمن، واستنبطنا التعاليم من تقاطع تلك الاتجاهات مع خطوط الزمان والمكان، لتخلصنا من فكرة القيود السلفية التي جاء الدين في الأساس ليهدمها، وحافظنا على المرجعية الروحية في نفس الوقت. أما إذا أصر البعض على ثبات النقط وليس المقاصد والاتجاهات، هنا يصبح الدين مقيداً للحرية لأن الإنسان يمشي في مسيرة الزمن ليجد أقدامه مقيدة بنقاط ثابتة في الماضي، ويتحول الدين لنفس الحالة التي جاء ليخلص الناس منها، وهي، إنا رأينا آباءنا يفعلون كذا وكذا.. ويشيخ الدين نفسه ويندثر مثل الأديان التي سبقته والتي عجزت عن مواكبة الزمن بصورة ديناميكية. ولذلك فإن السلفيين في رأيي هم أعدى أعداء الدين لأنهم يحكمون عليه بالاندثار نتيجة للجمود وعدم التجدد، بما يؤدي لتباين بين الدين بالمفهوم الاستاتيكي الذي يصرون عليه ويروجون له وبين الواقع المتغير مع الزمن والاحتياجات المتجددة والتحديات غير المسبوقة والتي تطرح نفسها على ضمير الإنسان وعلى أسلوب حياته


مقاصد الدين كاتجاهات أخلاقية في فضاء زمني-أخلاقي وليست كنقاط ثابتة عبر الزمن. فالتغير الدائم في الكون يحتاج لمفهوم ديني متجدد وديناميكي ينظر للمقاصد والاتجاهات وليس للثوابت والقشور أو النقاط المثبته في الفضاء الزمني-الأخلاقي

مشكلة التفسير والعنعنة


في البداية يكون التفسير سهلاً والظروف متشابهة ومعاني اللغة لم تتغير وظروف نزول الآية معروفة


ثم يأتي المفسر التالي ليأخذ عن المفسر الأول وهو ما أشبهه بوضع عدسة وراء عدسة


وراء عدسة وراء عدسة وراء عدسة.. وهكذا.. وهذا ما يسمى بالعنعنة


إلى أن يتشتت الضوء تماماً ويحتجب جوهر الدين وراء العدسات المتتالية. والأصح أن نزيل جميع العدسات السابقة ونهجر العنعنة ونضع عدسة تفسير مناسبة لعين الإنسان في تلك اللحظة بما يتناسب مع الزمن