أحزان أمير المؤمنين

3.5.08 |



بقلم د. إياد حرفوش

إهداء

إلى أرواح العظماء في التاريخ الإسلامي ، الكبار الأوائل اللذين فهموا الإسلام كعقيدة متجددة قوامها الإجتهاد و مراعاة مقتضى الحال، إلى روح الفاروق عمر بن الخطاب ، الخليفة الثاني الذي أضاءت اجتهاداته الطريق أمام المسلمين و إن كان أكثرهم لم يتبعوه ، و إلى روح علي بن أبي طالب ، إمام المتقين الذي كان فيلسوف الأمة و حكيمها و فقيهها الذي لا يبارى ، إلى أرواحهم الطاهرة ، أهدي بكل التواضع أمام شخوصهم الكريمة و تاريخهم الوضيء ، هذا العمل الروائي البسيط


-------------------------
تنويه

هذا العمل الروائي ، و برغم كونه من الناحية القصصية و الدرامية محض خيال من كاتبه ، إلا أن جميع الوقائع و الأحداث التاريخية و النصوص الدينية و التراثية المنقولة فيه حقيقية ، قد نختلف في صحتها أو صحة نسبتها لأصحابها ، لكن ما نؤكده ، أنها جميعا من تاريخنا الإسلامي و تراثنا الذي تحفظه لنا أمهات الكتب
--------------------------

الفصل الأول

(1)
الزمان هو القرن السابع الميلادي، و المكان ، هو بقعة صحراوية منبسطة تقع خارج قرية النهروان بسواد العراق ، فيما بين بغداد و حلوان، و نحن في النزع الأخير من ليلة صيفية قائظة، رمال الصحراء ممتدة ككآبة الليل ، لتضيف على الجثث الممتدة على امتداد النظر كآبة فوق كآبتها ، مشهد ينقبض منه الصدر و كآبة بلا حدود ، رياح صيفية قائظة تدور مثيرة رمال الصحراء ، كأنها تنعي الصرعى بينما تمزج الرمال بدمائهم المتخثرة، ثلاثة آلاف ما بين فارس و راجل ، مجندلين في الرمال، و سيماهم رؤوس حليقة و لحى شعثاء غبراء كهيئة الرهبان.

لا يوجد بالمشهد الدامي من الأحياء إلا كائنين ، يبدوان على البعد كخيالين ،أما الأول، فخيال لإنسان يجلس على صخرة ، مستندا برأسه على كفيه ، و ثانيهما لحصان هذا الفارس الذي يجول حوله مطلق العنان، كأنه يرعى فارسه ، أو لعله ينشد الأمان بجوار الفارس وسط رائحة الموت التي أحاطت بكل شيء، و من بين نجوم الصحراء المتألقة ، يظهر مارج من نار، نار تتحرك في كبد الصحراء، و تقترب شعلة النور و النار ، يحملها راجلٌ ممتليء القوام ، فتضيء المشهد مقتربة من الفارس الذي يمتطي الصخرة ، فيظهر لنا فارسا في نهايات العقد الخامس من العمر ، وسيم الملامح ، واسع الجبهة ، نافذ العينين، له لحية مهذبة رصع الشيب جوانبها، حتى و هو جالس بهذا الوضع الجنيني ، تشي هيئته بفارس متين البنيان ، مجدول الذراعين ، بارز الصدر، مكين القوة، ربعة بين الطول و القصر، و بجواره يقبع سيف شديد التميز و التباين عن غيره من الأسياف ، سيف ينشق عند نهايته لتصبح له ذؤابتين حادتين، ذؤابتان لطالما خاف مذاقهما الأبطال و المغاوير، و سيف بهذه الصفة لابد أنه السيف الذي أطاح بعنق "عمرو بن ود" جبار الجاهلية، سيف عرفه التاريخ باسم "ذو الفقار" في زمان كان فيه للسيوف و الخيول أسماء و أنساب، و لكن ... لو كان هذا هو ذو الفقار ، فالفارس بجانبه لابد أنه صاحبه ؟!!

و يقطع صوت القادم بالنور الشك باليقين و هو يضع يده على كتف الفارس الجالس من خلف قائلا:
 السلام عليكم يا أمير المؤمنين

إذن فهو الأمير! هو الأمير شرفا و الأمير نبلا و الأمير صهرا ! هو من قال واصفا ذاته يوماً " ليحبني أقوام حتى يدخلوا النار في حبي ، و ليبغضني أقوام حتى يدخلوا النار في بغضي" ، هو أول من دان بدين الإسلام من الذكور! ابن عم نبي الإسلام و ربيبه و صهره! رابع الراشدين و إمام المتقين ! هو أسد الله الغالب ... علي بن أبي طالب

و لكن ، ما بال أمير المؤمنين يجلس بهذه البيداء وحيدا؟!!

يلتفت فارسنا لفتة خفيفة برأسه و هو يرد قائلا
و عليك السلام أبا زيد

أتلك جلسة من أيده الله بالنصر يا علي؟

يبتسم علي ابتسامة كأنها تقلص من ألم ، قائلا:
الحمد لله من قبل و من بعد، يا أبازيد، أترى لو أنك دخلت بيتك، فوجدت ولدا لك قد قتل أخا له، و وقف بالسيف مشهرا فوق رؤوس البقية من إخوته ، يهم أن يفتك بهم ، فنهرته و لم ينتهر، و زجرته فلم يزدجر، فرأيت لو تركته فاتك بهم لا محالة ، فسللت سيفك و علوته به فأرديته قتيلاً ، أتراك تبيت ليلتك تلك في فراشك هانئاً؟ أفلا تتميز كمداً على القتيلين ، من مات بسيف أخيه و من مات بسيفك؟ فهذا هو حالي مع هؤلاء التعساء

نعم هم التعساء أيها الامير ، و لقد حفظت الأمة و خلصت الناس بقتلهم و اجتثاث شأفتهم

لا

لا؟؟ كيف و قد اجتمعوا لك بالنهروان فما تخلف منهم الا الشذرات؟ و قد أفنينا منهم في بياض النهار كل راجل و راكب؟

بل صدق رسول الله ، الشطط و التنطع آفة ولدت لتبقى ، فهم في أصلاب الرجال و أرحام النساء إلى يوم الدين

أهكذا حدث الرسول؟

ألم تسمع بخبر عن رسول الله حين قال " يخرج قوم من أمتي سفهاء الأحلام أحداث الأسنان يقولون من خير قول الناس، يقرؤون القرآن بألسنتهم لا يعدو تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، هم شر الخلق، فطوبى لمن قتلهم أو قتلوه" ؟ ألم تعرف أنه صلوات الله عليه وصفهم بصفتهم تلك التي تراهم مجندلين عليها؟ أحداث الأعمار ، يجيدون الحديث و لا يجيدون فعلاً ، يشددون على الناس، و يستحلون دماءهم، يكثرون من العبادة و لا تفيدهم عبادتهم بغير تقوى، و الله لقد سمعت منه حتى صفة جلود رؤوسهم و غبرة لحاهم

نعم يا علي ، سمعته كما سمعته أنت ، و لكنني ما ربطته بهؤلاء الخوارج الا الساعة ، الحمد لله الذي مكن منهم ، لكني بعد لم أعي عنك ما يحزنك؟ و كيف فطنت لأنهم باقون بعد يومهم هذا؟

ألم يصفهم الرسول بأنهم شر الخلق؟ و ألم يصف قاتلي الذي يضرب رأسي فتخضب دمائي لحيتي بأنه أشقى الآخرين؟ فقاتلي من هؤلاء لا ريب يا أبا زيد

شرار الناس كثر يا علي

يلتفت علي لمحدثه مرة ثانية و يهم بالكلام ، يقطع صمت الصحراء رنين لا يتناسب معها ، فهو رنين لا يناسب هذا الزمان، فهو رنين آلة ، رنين ... رنين ... رنين



(2)
يتلاشى مشهد الصحراء ، و يحل محله مشهد الستائر ذات الرسوم الفرنسية يتخللها ضوء الصباح ، يفرك الدكتور "علي الإمام" جبهته من أثر النقلة الزمنية الحادة من القرن السابع للقرن الحادي و العشرين، ثم يحرك رأسه يمنة و يسرة ليصدر صوتا خافتا من طقطقة فقرات عنقه ، يمد يده و هو ينهض من رقاده على علبة سجائره و قداحته ، و مع النفس الأول، يتردد برأسه الحديث النبوي الذي يحفظه بصوت كصوت علي الذي رآه بالنوم منذ لحظات ، شباب صغار الأعمار ، كثيري التعبد قليلي الفهم لما يقرأون من القرآن و العلم ، عظيمي اللحى محلقي الرؤوس، صدقت أمير المؤمنين ، هم ما زالوا ينزفون كالصديد من أصلاب الرجال و أرحام النساء حتى أفسدوا دنيانا علينا

قام علي إلى الحمام ليغتسل ، و مع انحناءته فوق الحوض ، تدلت من عنقه قلادة تحمل شكلاً مألوفا تحدثنا عنه منذ قليل ، قلادة من فضة على هيئة سيف .... ذي ذؤابتين ... قلادة ذو الفقار



(3)
علي الإمام ، أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب ، جامعة القاهرة، و الحاصل على الدكتوراة من جامعة شيفلد في التاريخ الإسلامي ، في الأربعين من عمره ، وخط الشيب فوديه و لحيته الصغيرة بشعيرات بيضاء منتثرة يمينا و يسارا، أعزب حتى هذه السن ، ليس لاضراب عمدي عن الزواج ، و لكنه لبث ينتظر المادونا الالهية التي تهبط من السماء ، حاملة لكل ما يحب من صفات ، حلم مراهقة لم يتمكن من الخلاص منه أبداً حتى وصل لمنتصف الثلاثينات ، عندها قرر أنه من العبث أن يتزوج بعد كل هذا الانتظار من أي بنت حلال حتى يرزق منها بأطفال ، مات والده ، الشريف "عزمي الإمام" و هو راض عن ولده في غير هذا الموضوع ، فقد كان دائما يقول له معاتباً

أنت بتقطع فرع من الدوحة الكريمة باضرابك عن الزواج ، بتقلل النسل الباقي من عترة الرسول في الأرض، انت ابني وحيدي، ربنا أراد كده ، و ما عاش لنا من الذكور أنا و والدتك غيرك، بس ده كان قدر، لكن انت بتقلل دوحة النبوة باختيارك

يا مولانا دوحة النبوة انكمشت من 14 قرن في كربلاء، و لولا أن ربنا اراد الحياة لسيدنا "علي زين العابدين" لما كانت هناك دوحة باقية من نسل الزهراء و إمام المتقين ، هاتسيب يزيد بن معاوية ، و شمر بن ذي الجوشن ، و زياد بن أبيه و تتهمني أنا بتقليص دوحة النبوة؟ بذمتك مش ده حرام؟ و لا علشان ماليش جيش يعني؟

و انا هاخد حق و لا باطل معاك؟ ما أنا خلفت سقراط المصري و أنا مش واخد بالي

كان والده يمنحه هذا اللقب منذ مراهقته حين بدت عليه إمارات الذكاء و النجابة في شكل حضور ذهن و فراسة طاغيين ، جعلاه مجادلا لا يبارى ، ثم مات والده الحبيب و أعقبته والدته الشريفة "رحيمة الشريف" بعام واحد ، ليصبح علي وحيدا بهذه الشقة الرحبة التي تطل على نيل القاهرة، حتى طلقت أخته "عزة" و انضمت له في معزلهما هذا كما كانا يسمياه ، و على هذا فالدكتور "علي الامام" ينتمي للأشراف من الجهتين، و له شهادة باسمه تفيد بانتسابه للأشراف ممهورة بخاتم نقابة أشراف مصر، و معلقة في الصالون العتيق ، وحيدة مع شهادات والديه و اخوته، بينما باقي شهاداته العلمية في غرفة مكتبه ، حين كان يسأل عن سبب فصلها كان يقول:
هذه لا فضل لي فيها و لا عمل ، هذا بفرض صحتها ، و هذا أمر ليس بالامكان أن أجزم به و لا بعكسه