الإفلات من الإعصار

10.5.08 |


بقلم ذي إنوسنت


نحن البشر مساكين، أو على الأقل أنا. فأنا مثل باقي البشر جئت إلى الحياة دون إرادتي، لم يسألني أحد ولم يُؤخَذ رأيي. وجدتني محاصر برجل وامرأة لم اختر أي منهما، هما أبي وأمي كما قال لي المجتمع الذي لم اختاره أيضا

قرار الوالدين والمجتمع – وهو قرار غير واعي في الغالب - ألقى بي إلى الحياة في زمان ومكان لم اخترهما، وفي ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية لم اختارها أيضا. والأعجب من ذلك أنهم قرروا – بنفس اللا وعي - عدة أشياء أخرى مثل الاسم الذي أحمله ونوعية التربية وعلموني عادات وأعراف يعتقدون بصحتها وورثوني الجنسية والدين والصداقات والعداءات.

وطوال الوقت أتسائل ببراءة الأطفال عن سبب كل تلك الأشياء التي يختارونها لي، بينما تزداد حُمرة وجوههم معللين تأجيل السبب حتى أكبُر وأنضج. وحين نكبر وتذهب عنا البراءة ننسى أسئلتنا وننشغل بأن نفعل ما فعله بنا السابقون باللاحقين، ونؤجل نحن بدورنا الإجابة على تساؤلات اللاحقين حتى ينضجون وهكذا دواليك. ومع الوقت تقفد الأعراف أسبابها وتفقد القاعدة منطقها، ويزول السبب وليس من يُطالب بإبطال القاعدة. ونظل نحن البشر ندور داخل ذلك الإعصار من الموروثات غير المُعللة أو التي على الأقل من حقنا أن نتبنى غيرها. إن آراء المجتمع والأعراف السائدة فيه تكتسب قوتها ومصداقيتها من كونها "موروث جماعي" يتلقاه الناس ويتداولونه فيما بينهم بوصفه "الحقيقة" التي لا تُناقش": إنه إعصار "الصواب الموروث".

إن مجتمعا ما لا يشُك للحظة في صحة ما يملك من أعراف وثقافات, حتى ليبدو لك أن المجتمع ينظر إلى ما يملك بفلسفة القرد في عين أمه. ببساطة المجتمع لا يشك لأن الشك يحتاج إلى إعمال العقل، وهذا قد يُطالب بالتغيير، والتغيير مكلف ومُرهق. لذا نجد المجتمعات أميل إلى السكون – ثقافيا - منها إلى الحركة، وضمير الجماعة يهوى الاستقرار. إن المجتمعات أشبه بالأشجار، تحتاج من حين لآخر لمن يهز جذعها حتى تنفض عنها الورق الذابل، بينما تتشبث بالفروع تلك الأوراق ذات الفائدة. يحتاج ضمير الجماعة لمن يقلق راحته دائما لدفعه للسعي وراء الكمال.

لا اقول أن فردا ما قد يمتلك الحق الذي يجهله المجتمع, أو أن مجتمعا ما قد يمتلك الحق الذي تجهله المجتمعات الأخرى. فالحق لا يُمتلك. ولكن أفكارنا تحتاج لأن تُمتحن حتى تزداد قناعتنا بها. إنها عملية غربلة نسعى بها وراء الحق حتى نقترب منه أكثر فأكثر. نحتاج لأن نقرأ الواقع في كل يوم على ضوء معطياته. وعملية القراءة الجديدة هذه لن تأتي وانت تحمل في أعماقك قناعة تامة بصواب الموروث الجماعي. أتذكر الآن ما يقوله ديكارت "إن العلة الأولى الكبرى لأخطائنا هي الأحكام القاصرة التي أتخذناها في مقتبل عمرنا. وبدلا من أن نسلّم بأن هذه الأحكام قد انعقدت في أذهاننا حين كنا عاجزين عن الإصابة في الحكم، وأنها تبعا لذلك يمكن أن تكون أقرب إلى الباطل منها إلى الحق، تلقيناها على أنها يقينية". نحتاج لأن نتجرد من إنتماءاتنا الثقافية والفكرية قليلا، لنضعها إلى جانب إنتماءات الآخرين، ثم نبتعد حتى ننظر إلى الجميع. لن نخسر شيئا، لأن فكرا هشا وضعيفا لا يستحق أن يعتقد فيه بشر. سنعلم أشياء عن قوة ما نملك وضعفاته وكذلك قوه ما يملك الآخر وضعفاته. نحتاج لأن نتوقف عن الدوران داخل هذا الإعصار الثقافي غير المُمتحن والذي ندور فيه بفلسفة القطيع. تحتاج مجتمعاتنا دائما لهؤلاء المتمردين الذين يعشقون هز الأشجار. فتعالوا نمتحن شجرة مجتمعنا، علّنا نستطيع الإفلات من الإعصار