بقلم محمد ثابت


تبدو علاقة المصريين بمنهجية التفكير العلمي في أشد حالاتها اضطراباً وتباعداً خلال السنوات الماضية. فتفاصيل الواقع والمشاهدات اليومية في الشارع المصري اليوم تؤكد أن مدى إيمان قطاع عريض للغاية من الشعب المصري بثقافة الخرافة و"الميتافيزيقا" أو عوامل ما وراء الطبيعة هو في تزايد مستمر في كل يوم

وطبيعي أن نرصد في الوقت نفسه تراجعاً مستمراً ومطرداً في نسب عامة الشعب المصري التي تؤمن بقيمة العلم وأهميته والتي تدعو لتبني منهج علمي منطقي متقدم نسبياً في التفكير وتسعى في الوقت نفسه لتفعيل عناصر ذلك المنهج في حياتها اليومية.

وحقيقة فإن المشاهدات الدالة على حالة التراجع المتصاعد في منهجية التفكير العلمي التي أصابت المصريين على مدى العقود الثلاثة الماضية هي أوضح وأكثر من أن تُعد أو أن تُحصى في مقال قصير نسبياً كهذا، ولكن لا مانع على أية حال من الإشارة في عجالة إلى بعض من أبرز المشاهدات الشائعة في حياة المصريين اليومية الراهنة التي يمكننا أن نستشف منها إلى أي مدى باتت نسبة كبيرة للغاية من الشعب المصري تكفر تماماً بقيمة العلم وبأهميته وبجدوى العمل بعقليته ومنهجيته. فالكوارث الطبيعية من زلازل وأعاصير وغيرها هي في نظر السواد الأعظم من المصريين اليوم بمثابة انتقام إلهي من البشر الذين بلغت آثامهم حداً لا يمكن للسماء السكوت عنه أو عليه، وأساليب التداوي الخرافية غير المؤيدة علمياً وذات المرجعية التراثية أو الدينية الواضحة كالحجامة وغيرها فهي في نظر نفس ذلك القطاع من المصريين أفضل وأكثر فعالية و"ثواباً" من أساليب العلاج الحديثة القائمة على البحوث العلمية التي تتبع المنهج العلمي الرصين ذي الخطوات الثلاث: تجربة، مشاهدة، استنتاج. أما "الثعبان الأقرع" فهو في نظر غالبية المصريين اليوم حقيقة مؤكدة ما من شك فيها وما من مهرب منها لكل عاص كُتب عليه وأُحق له عذاب القبر، رغم أن أغلب الروايات التي تناولت قصته غير مؤكدة وغير منطقية ولا متواترة. وأخيراً وليس آخراً، فإن الإيمان بأن "العفاريت" تستطيع أن تتلبس البشر وتتربص بهم ولهم، وبأنه يمكن استخدام السحر لـ "فك العمل" ولتسيير الأمور الشخصية نحو الأحسن أو لإيذاء الآخرين أو لدفعهم للتصرف على نحو أو آخر، وبأن تفسير الأحلام على أسس دينية أو تراثية غير قائمة على أي مبادئ علمية هو حق مطلق طالما أن من يقوم به هو من رجالات الدين، والإيمان بالفأل الحسن والنحس والتفاؤل أو التشاؤم المرتبطين بأشياء وظواهر مادية أو طبيعية معينة، فضلاً عن التبرك بزيارة قبور شخصيات معينة أو أماكن معينة، وغير ذلك العشرات من العادات الاجتماعية المصرية الراهنة الشائعة حتى بلغ بعضها درجة القاعدة المطلقة إنما هي كلها بمثابة تعبير بليغ وناطق وعفوي عن مدى ما وصل إليه المجتمع المصري اليوم - بأغلبيته وليس بإجماعه، بطبيعة الحال - من نفور سطحي من الطريقة العلمية المنطقية في التفكير التي لا تعتد بالخرافة والظن الحدسي ولا بالقول المتوارث أو المتواتر ولا تعترف إلا بكل ما يمكن إقامة دليل علمي مقنع عليه سواء أكان عملياً أو حتى لفظياً.

وإذا أردنا البحث في أسباب تراجع ميل المصريين إلى التفكير العلمي وتنامي ميلهم لتبني منهجيات تفكير أقل تطوراً ومنطقية في السنوات أو العقود الماضية، الأمر الذي لاشك أنه يحتل أحد مراكز الصدارة على قائمة مسببات تراجعنا الحضاري الشامل في العصر الراهن، فإنه قد يكون بوسعنا إذن الإشارة - لكن في عجالة، نظراً لضيق المساحة المتاحة هنا - إلى الأسباب التالية:

أولا: لابد من الإشارة إلى تراجع وتدهور المنظومة التعليمية المصرية الراهنة برمتها وعلى كافة مستوياتها ومراحلها وتخصصاتها. فالنظام التعليمي المصري الحالي بات أنجح ما يكون في شيء شديد السلبية هو تخريج دفعات تلو دفعات من الطلاب والمتخرجين الذين لا يملكون ولا يجيدون استخدام مهارات التفكير والتحليل العلمي المنطقي والربط العقلي السليم بين الجزئيات المختلفة التي يتألف منها موضوع ما أو عدة موضوعات مشتركة، وطبيعي في ظل نظام تعليمي متراجع وقائم على مبدأ تقديس ملكات الحفظ والاسترجاع وعلى إعلاء قيمة الكم في كل شيء على حساب قيمة الكيف - طبيعي في ظل ذلك النظام أن نجد أن نسبة المصريين الذين يسعون لتبني المنهجية العلمية في التفكير هي في أسوأ وأدنى حالاتها لأن المفروض في الطلاب وحديثي التخرج أصلاً أن يكونوا من أشد فئات أي مجتمع قدرة على تبني مناهج التفكير العلمي المنطقي الرصين البعيد والعمل الفعلي بها، فماذا يمكننا أن نتوقع إذن إذا كان حال نظامنا التعليمي الحالي وطلابه ومتخرجيه هو ما هو عليه الآن للأسف؟!

ثانيا: ولابد كذلك من الإشارة إلى الدور السلبي البالغ السطحية والخطورة والضرر على المدى البعيد الذي تلعبه في الداخل جماعات الإسلام السياسي بوجه خاص، والجماعات السياسية المتسترة تحت رداء الدين بوجه عام، وتأثيراتها السلبية على العقلية المصرية المعاصرة وعلى مدى إيمانها بالعلم وبطريقة التفكير المنطقية المتصلة به، خاصة في ضوء تنامي التأثيرات السلبية على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية المختلفة التي تمارسها علينا الحركة الوهابية الدولية وما هو على شاكلتها من حركات دينية متشددة ورجعية في الخارج. وأظنه من الصعوبة بمكان أن يستطيع أي محايد - حتى وإن كانت مرجعيته دينية بالأساس - أن ينكر تنامي التأثيرات السلبية للتيارات الدينية المتشددة والرجعية في الداخل والخارج على العقلية المصرية في السنوات الأخيرة، ولاسيما بعد تصاعد نفوذ تلك الحركات بفعل عدة عوامل متداخلة معاً كالفورة النفطية الثانية في السنوات الأخيرة وتصاعد النفوذ الإعلامي الفضائي للفكر السلفي والوهابي في السنوات الأخيرة وما يعنيه ذلك من تزايد ملحوظ ومطرد في قدرة تلك الحركات الرجعية على السيطرة على مفاتيح عقول قطاع كبير للغاية ومتنام من الشعب المصري وخاصة من الطبقات الأقل دخلاً أو الأقل ثقافة واطلاعاً.

ثالثاً: وأخيراً وليس آخراً، تجب الإشارة إلى تنامي شعور المصريين - كشعب وكأفراد - باليأس وفقدان الأمل في أي تغيير حقيقي نحو الأفضل في العقود القليلة الماضية، وغياب أي فكرة محورية من أي نوع أو إيديولوجيا أو أي مشروع قومي حقيقي واسع النطاق من أي مستوى قادرين على إحياء الحس الوطني العالي من جديد في قلوب المصريين وشغل أوقاتهم وإعادة الأمل في غد أفضل أو الحلم به من جديد إلى نفوسهم بعد أن مات بالكامل أو كاد. فوجود فكرة محورية كتلك أو مشروع قومي كذلك ليس من شأنه فقط توحيد جهود المصريين ومضاعفة إنتاجيتهم ووضع حد نهائي أو طويل المدى لنزعات الفتنة الطائفية والاستقطاب والاستقطاب المضاد التي نعاني منها بوضوح في السنوات الأخيرة، وإنما وجودهما يمكن أن يلعب أيضاً دوراً إيجابياً ملحوظاً في شغل المصريين أو في إشعارهم بالتعالي و"الترفع" عن التفكير في الخرافات وعن إعزاء الظواهر الحياتية المختلفة إلى مسببات ميتافيزيقية وخرافية.

وللأسف لم يتسع المجال هنا لأن نتناول بشيء من التفصيل العديد من العوامل الأخرى التي يمكن اعتبارها من ضمن أسباب تراجع قيمة التفكير العلمي في مصر وتصاعد ممارسة التفكير الخرافي في السنوات الأخيرة، مثل ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وزيادة أعداد المناطق العشوائية وترسخ القيود السياسية الصارمة والخانقة المفروضة على الممارسة السياسية في الجامعات والمفروضة على الأنشطة الحزبية وعلى منظمات المجتمع المدنى، وغير ذلك من العوامل الإضافية التي تفضي مجتمعة في النهاية إلى نتيجة سلبية واحدة هي اضطرار قطاعات واسعة من المصريين إلى الارتماء في أحضان التيارات السلفية المتشددة ومنهجيات التفكير غير العلمي بالمرة المقترنة بها وكأن ذلك هو البديل الوحيد، أو وكأن تلك القطاعات ما عادت محصنة بأي شيء معنوي أو مادي ضد ارتماء مهلك كذلك. وإذا كان المجال لم يتسع في هذه الحلقة لتناول تلك العوامل الإضافية ولا لتناول بقية عناصر قضيتنا هذه بالتفصيل، فربما تُتاح لنا فرصة تكملة هذا الحوار في أعداد قادمة. وإلى اللقاء قراءنا الأعزاء