التوجه المدني لدولة الرسول-2

2.4.08 |

بقلم د. إياد حرفوش



حق في حياة .. و حياة في حق


نستكمل اليوم بإذن الله مسيرتنا، مطالعين مجموعة أخرى من الركائز التي قامت عليها الدولة المدنية الأولى في تاريخ الإسلام، و هي دولة النبي في المدينة المنورة

حين شملت حرية التعبير رأس الدولة

قد نتفق على كون استثناء رأس الدولة من النقد، و تقديسه و تأليه تعليماته، هما أهم سمات الديمقراطيات الهيكلية، و التي نجدها وافرة في عالمنا العربي اليوم، فتجد الواحد من "الصحفجية" المدجنين و المعينين، يهاجم الوزراء، و أحياناً رئيس الوزراء، ثم تراه ينبطح على بطنه مناشدا "حكمة الرئيس" أن تتدخل !!! كم مرة نطالع هذا النموذج المقزز كل يوم في كل الصحف القومية و كثير من الصحف المعارضة؟ و كم مرة تعرض من يخرج عن هذا السياج للمساءلة القانونية و أحكام الحبس؟ و لعل آخرها كانت بالأمس القريب، فكيف كان النموذج الذي قدمه الإسلام لحرية التعبير ؟

نعلم قصة الرسول حين كان يوزع الغنائم بعد معركة حربية ، فإذا بأعرابي يخاطب النبي بوقاحة ظاهرة قائلاً: أعطني من هذا المال، فليس المال مالك، ولا مال أبيك ، و نعرف من مختلف المصادر أن الرسول كف عنه غضب أصحابه و أعطاه حاجته، و كذلك موقفه صلى الله عليه و سلم ممن قال له "اعدل يا محمد" و ممن كان له عند الرسول دين فأغلظ له القول، فهذا هو رأس الدولة، يتعرض لمواقف فيها وقاحة تتجاوز حدود حرية التعبير و تصل إلى ما يعاقب عليه القانون المدني في زماننا، لكنه يقبل الحديث كرأس للدولة، و يعفو عن المسيء بأخلاق النبوة، و قد اتبعه الراشدين من صحابته، فسمح عمر ابن الخطاب لسيدة من الأنصار أن تراجعه على الملأ و هو خليفة، و قال قولة نذكرها جميعاً "أصابت امرأة و أخطأ عمر"، بينما نجد اليوم واحدا من عامة الناس لا حيثية له و لا وضع خاص، يستنكف أن يدعي غيره القدرة على التفكير في الدين و التفقه فيه، و أن يختلف معه بناءً على ما فقه، فيقول بوقاحة "يعني كل واحد عاوز يبقى عمر عبد الكافي؟" !!! و لن أطيل هنا في ذكر شواهد حلم الرسول و الراشدين في تحمل النقد و الهجوم، فهي أمور مرددة كلنا بها عالم و لها حافظ، لكنني أردتها هنا شاهداً على المناخ العام لحرية التعبير، فلو علم واحد من هؤلاء المهاجمين و الناقدين أن الرسول أو خلفائه يقابلون النقد و التعبير عن الخلاف بالسجن أو السيف لما تجرأ على المعارضة، و تلك شيمة مناخ عام تسوده الحرية، على عكس ما ساد بعد ذلك في الملك العضوض لبني أمية و بني العباس، حيث تحولت الدولة الديمقراطية إلى ملكية بحتة بكل ركائز الملكيات الغير دستورية في التاريخ، و منها القهر و تأليه الملوك.

هارون الرشيد في حرسه الحديدي، حين تحولت الخلافة إلى ملكية غير دستورية

حديث الإفك و دلالته على حظر استخدام السلطة

حديث الإفك بدون الخوض في تفاصيله هو واقعة تقول فيها الناس بالمدينة المنورة و خاضوا في عرض واحدة من أمهات المؤمنين، بل أحب زوجات الرسول إليه، و لا يهمنا هنا الحديث بذاته، و لكن يهمنا أننا نفهم من مختلف الأخبار، أن الحديث بدأ أولاً بين جماعة المنافقين، و هؤلاء تراوحت تقديراتهم من بضعة و سبعين إلى ثلاثمائة فرد، ثم انتشر الحديث كأي همس لئيم بين غيرهم من فئات المجتمع المدني، و نعرف أن الرسول همه ذلك و أكربه كربا عظيماً، و قضى بهذا الحال أياماً حتى نزل الوحي الإلهي ببراءة السيدة عائشة، و نعرف من الأخبار أيضاً أن عقاب من عوقب بالجلد ممن بدأ هذا الحديث، و هم ثلاثة ، حسان بن ثابت شاعر الرسول، و أخت لزوجة من زوجات النبي، و قريب لأبي بكر، و لم يعاقب به أحد من المنافقين لعدم وجود شهود أنهم اشتركوا و إن كانت الروايات كثيرة أن عبد الله بن أبي هو أول من خاض به، فلو تخيل الواحد منا نفسه بموضع النبي في هذا الأمر، أفلا يثور ثورة قد تورطه في جريمة؟ و لو كان حاكماً ذا سطوة، أفليس من الممكن أن يسفك بحراً من الدم في فورة غضبه لعرضه؟ خاصة و النفر الذي بدأ الخوض كان عدداً قليلاً؟ فهنا نجد أن الرسول تعامل مع الموقف كرجل غير ذي سلطة، أما جلد من ثبت بحقه رمي السيدة عائشة فهو عقاب طبيعي لمن يسيء لسمعة غيره بدون بينة و لا دليل

تعدد العقائد كحقيقة أثبتها القرآن

مجتمع التعدد و التباين هو النموذج الذي أراده الله بحكمته للبشر، حتى في العقيدة، و الأدلة البينة على هذا من القرآن أكثر من أن نحصيها، و لكننا نعرض منها نماذجاً قليلة، فانظر لقول الحق في سورة المائدة " وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" و نفس المعنى تقريباً يرد في سورة هود، و سورة النحل و سورة الشورى، و كذلك نجد في سورة يونس " وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي ٱلأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ" فهذا استفهام للاستنكار، يفيد و يؤكد قاعدة عدم الإكراه في الدين، و هو ما سنأتي له لاحقاً.

التعدد، إرادة الله لهذا الكون

لكن لماذا تركنا الله نختلف؟ ألم يكن ممكناً أن يحسم هذا الخلاف في الدنيا؟ ما هي الحكمة وراء هذا التعدد ما دمنا مكلفين بالإيمان؟ لماذا هبطت كل الأديان بصيغ إيمانية غير سهلة على أواسط الناس؟

الأسباب كثيرة، لكن أهمها يتبين لنا حين نطالع تطور الفكر البشري عبر التاريخ، فنجده يقترن وجوباً بتطور الفكر الديني و الفلسفي، فبعد أن انتظم الإنسان بمجموعات بشرية و توفرت له رفاهية التفكير بعد أن أمن على حياته و غذائه نوعياً، بدأ يتساءل، ما الحكاية؟ لماذا نحن هنا؟ ما موضوع هذا الكون و هذه الشمس و تلك النجوم اللامعات؟ فبدأت من هنا الميثولوجيا، ثم الفلسفة لتجيب على هذه الأسئلة الغامضة، و من هنا تعلم الإنسان طرق التفكير و الاستدلال، من محاولة الإجابة على سؤال وجوده الذي أرقه، و بعدها حاول أن يستثمر ملكة التفكير المنطقي التي طورها في تطويع ظواهر الطبيعة له، فظهرت علوما مثل الطب و الكيمياء و الفلك و غيرها من وعاء الدين و رجال الدين أو الفلاسفة في مرحلة لاحقة، و حتى اليوم، مازال اختلاف الأديان و المذاهب و الأنماط الفكرية و العقائد الاجتماعية يؤدي إلى مزيد من الجهد للشرح و النقد و الرد، فهذه هي التعددية الخلاقة، و لقد صرح القرآن لنا بأنها كانت حكمة الله و مشيئته في الكون.

الميثولوجيا اليونانية ، من أقدم المحاولات البشرية على الأسئلة الكونية

و من واقع هذا القبول للتعدد، نجد أن مجتمع المدينة المنورة قد بدأ حين هاجر إليها الرسول بثلاث أديان في حالة تعايش سلمي، فكان فيها المسلمون، و اليهود، و المشركين، و استمر الوضع على ما هو عليه لسنوات عديدة حتى تغيرت الظروف بمضي الوقت و تتابع الأحداث

حرية الاعتقاد و بطلان القول بنسخها

في القرآن الكريم تعددت الآيات الدالة على حرية العقيدة ، فنجد تكرر هذا المعنى الوارد بسورة البقرة " لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ" في قرابة الأربعة و عشرين آية من القرآن، من سور الكهف و الإنسان، و الكافرون و الإسراء و غيرها، و تلك الآيات التي يعضد بعضها بعضاً يقول البعض بأنها نسخت جميعاُ بالآية الخامسة من سورة التوبة " فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" و قالوا أيضاً أن هذه الآية الواحدة قد نسخت نيف و مائة آية من القرآن !!! و هذا قول مردود من وجهين

الأول: أن الآية الخامسة من سورة التوبة آية خاصة بتحريم تواجد المشركين حول الحرم المكي بعد تاريخ و مهلة معينة، و ذلك ما عدا من ارتبط الرسول معهم بعهود تعطيهم حرية الزيارة لمكة، و هذا أمر طبيعي، فليس من المعقول أن أذهب كمسلم إلى بازيليكا "سان بيتر" في الفاتيكان و أفرش سجادة و أشرع بالصلاة بحجة حرية العقيدة! لكل دين مقدساته و من احترامها عدم ممارسة شعائر أخرى داخل هذه الأماكن المقدسة، فهل هناك قانون مدني على وجه الأرض يكفل للمواطن ممارسة شعائره في دار عبادة خاصة بدين آخر؟ بالطبع لا، و معنى الآية واضح في سياقها من السورة، و نعجب ممن يدعي بعمومها كل العجب

الثاني: أن النص القرآني وضح وضوحاً لا ريبة فيه أن الآية تنسخ بآية مثلها أو أكثر، لكن ليست هناك آية "كاسحة" تنسخ أكثر من مائة آية من القرآن في سور عدة، و كذلك لا تنسخ الآية بحديث شريف، و هذا ما نفهمه من نص الآية الكريمة من سورة البقرة " مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" فلابد للناسخ أن يكون آية أو أكثر ليكون مثل الآية المنسوخة أو خيراً منها، و هذا شاهدنا الذي عليه نعتمد، فعلى أي قاعدة اعتمد القائلين بالنسخ على الصورة التي ذكرناها؟

فلماذا إذاً يكثر الحديث عن الردة و حد الردة؟ و هل طبق هذا الحد فعلياً في دولة الرسول؟ و ماذا عما يعرف بحروب الردة في التاريخ الإسلامي؟

هذه كلها أسئلة نجيبها مع غيرها الشهر القادم مع مصر الجديدة إن شاء الله