أحلام مصر الجديدة

8.3.08 |


بقلم تحوتمس

23 قرن من الاحتلال الأجنبي، استيقظنا في أحد الأيام منذ حوالي نصف قرن لنكتشف أننا قد اصبحنا مسئولين عن أنفسنا! 2300 عاما قضتها مصر مستعمرة، للفرس ثم اليونان والرومان والعرب والأتراك والانجليز.

لا أعلم لماذا يذكرني الاستعمار بالمرض. عندما يقع الجسم فريسة للمرض، تحاول الأجسام الطفيلية تسخير هذا الجسم لخدمتها. تمتص دماءه وتتعيش على عافيته. وكذلك الاستعمار، يجمع الولاة والجباة الضرائب والمكوس القاسية، ويئن الفلاح المسكين تحت وطأة القهر والذل حتى يضطر لبيع بعض من أبنائه لسداد الضريبة أو الجزية.

مئات السنوات ضاعت من عمر هذه الأمة وهي محتلة، تدهورت فيها عافيتها الحضارية بل والسكانية من القمة وإلى الحضيض. وبعد أن شهدت مصر مولد الحضارة واكتشاف الزراعة والري واللغة والتقويم والرياضيات والهندسة والفلك والطب والكيمياء والدين والآداب والفنون، أصيب الجسم بالمرض وتوقف عن الإبداع. على مدى ألفي عام هي عمر الاحتلال لم نسمع عن أي إنجاز مصري. وتشير التقديرات أن عدد السكان بمصر كان حوالي 8 مليون نسمة في عصر البطالمة، قبل الميلاد بعدة قرون. وتدهور عدد السكان حتى وصل إلى حوالي 2 ونصف مليون نسمة أبان الحملة الفرنسية على مصر بعد ألفي سنة.

فقدنا ثقلنا السكاني، ثم فقدنا الذاكرة مع ضياع اللغة المصرية في القرن الرابع الميلادي عندما حرم الرومان المسيحيون الكتابة الهيروغليفية باعتبارها رموزاً وثنية، فتحولت ذاكرة مصر إلى رموز مشفرة. فقدنا الذاكرة، وفقدنا التواصل مع الأجداد. وجاء الغزو العربي عام 639م ليقضي على الجسر الوحيد الباقي، وهو اللغة القبطية، التي عانت الحصار المنظم إلى أن اندثر استخدامها تقريباً في القرن السابع عشر الميلادي، عدا في بعض الطقوس الكنسية. أي أننا في القرن الرابع الميلادي، بدأنا رحلة تيه (توهان يعني)، من أطول الرحلات التي عرفها الإنسان، استمرت لحوالي ألف وخمسمائة عام.

البحث عن الهوية

بعد أكثر من ألفي عام من الاحتلال والتيه والغيبوية الحضارية، تستعيد مصر استقلالها، وتستيقظ من الغيبوية تدريجياً، على آلام مبرحة وتداعيات مرض طويل، يحتاج لفترة نقاهة غير قصيرة، وتغذية ثقافية مكثفة. وفي وسط هذه التداعيات، نفتح أعيننا وننظرحولنا ونتأمل أنفسنا، وننظر في المرآة، فلا نعرف من نحن. هل نحن مصريون؟ هل المصريون أمة متفردة؟ أم أننا عرب؟ أم مسلمون؟ أم مسيحيون؟ هل ننتمي لشعوب حوض البحر المتوسط، بحر الحضارات القديمة العظيمة؟ أم ننتمي لشعوب حوض النيل الذي هو سر الحضارة والوجود بالنسبة لنا ولأجدادنا وأحفادنا؟ من نحن؟ من أين نأتي؟ وإلى أين نذهب؟

في هذه اللحظات المحورية في حياة أمتنا، نحن في أشد الحاجة لاستلهام رؤية قومية، تساعدنا على التعرف على هويتنا الكامنة، وتحديد هدف قومي، يجسد ما نود أن نصل إليه كأمة، ومعالم الطريق الذي يتعين علينا أن نسلكه حتى نصل لهذا الهدف.


في انتظار حلم عظيم

الحضارة الإنسانية هي نتاج سلسلة من الرؤى والأحلام والمبادرات العظيمة، ومن هنا فالقدرة على الحلم، والقدرة على التخيل، هي أهم ما يميز الإنسان عن سائر المخلوقات الأخرى، التي تعيش الحياة كما تجدها. أما الحضارة الإنسانية، فتتميز بوجود قفزات نوعية غير مفهومة. تبدأ المبادرة بحلم بسيط وعظيم، يولد في خيال أحدنا، يخترق من خلاله الضباب الذي يفرضه الواقع بأبعاده المادية المعروفة، ومحدداته التي تخضع للمنطق الموجود والمستقر، لتحلق وتنفذ عبر أحجبة الزمن المعتمة من خلال ومضة صدق، تستمد وهجها من مخزون أودعه الخالق في ضمير الإنسان في عصر البراءة، فنرى المستقبل من خلال رؤية نافذة وبصيرة ثاقبة، نراه لا كما هو أو كما سوف يكون إن استمرت الأمور على ما هي عليه، بل كما يمكن أن يكون، وكما يجب أن يُصنع.

والأمم العظيمة تصنعها الأحلام العظيمة. في بدايات حكمه القصير في مدته، الطويل في آثاره، أطلق جون فيتزجيرالد كينيدي، حلمه بأن الولايات المتحدة سوف تضع أول إنسان على سطح القمر قبل نهاية عقد الستينيات "... سنفعل ذلك ليس لأنه سهل علينا ... بل لأنه صعب." لقد طرح كينيدي هذا التحدي على أمته، ليصبح ذلك الشعار رمزاً للرغبة في التقدم في كل مجال اقتصادي وصناعي وتقني. وخلال السنوات التالية، ورغم وفاة كينيدي نفسه، فقد عاش حلمه حياً في ضمير الأمة الأمريكية، وجاء من بعده رئيس سار على نفس الدرب (ليندون جونسون)، ثم جاء رئيس ثالث (ريتشارد نيكسون)، ليتحقق في عهده الحلم في خلال أقل من سبع سنوات من إطلاقه. لم يأت الرئيس التالي أو من جاء بعده ليسفه من حلم كينيدي أو يشطبه ليبدأ مشروعه هو القومي حتى يتذكره الناس به. لم يحاول من جاء بعده أن ينسب الحلم لنفسه أو يعيد كتابة التاريخ ليضخم من إنجازاته. وكنتيجة لهذا الإصرار والاتساق في الرؤية والاتفاق على الهدف، استطاعت أمريكا أن تكسب سباق التكنولوجيا، وتتفوق في صناعات الحواسب والاتصالات والروبوتيكس والذكاء الاصطناعي والليزر وبحوث الدواء والهندسة الوراثية والوقود وهندسة المواد الجديدة وغيرها من التقنيات الاستراتيجية التي تطورت مع تكنولوجيا الفضاء، لتنتصر في النهاية في الحرب الباردة، وتصبح سيدة العالم بدون منازع.

ولأن الأمم العظيمة تصنعها الأحلام العظيمة. فالأمم العظيمة هي التي تسمح للحالمين بالحلم، وتتيح الفرصة لأصحاب المبادرة أن يأخذوا المبادرة، ويحققوها على أرض الواقع، ويستفيدوا بصفة شخصية من نجاحها، ما دامت تلك المبادرات سوف تسهم في النهاية في النهوض بالمجتمع وتعبر به نحو المستقبل. أما الأنظمة التي تخاف من الأحلام، وتطارد الحالمين، وتجهض أحلامهم، أو تعاقبهم على مجرد الحلم، في سبيل تكريس الوضع القائم والحفاظ على مصالح النخبة الحاكمة، تحت دعاوى الاستقرار وجرعات الإصلاح التدريجي "المشمومة" والمغشوشة، فهي أمم محكوم عليها بالتدهور والتذيل، ثم الاندثار والفناء. الأنظمة التي تحاصر أصحاب المبادرات، وتنكر عليهم الاستفادة من مبادراتهم، خشية أن يصعدوا فيهددوا النخبة الموجودة، هي أنظمة تطلب العقم وتحرص عليه، وتمارس التعقيم والتقليم، والإخصاء والإقصاء، بدعوى الحفاظ على الاستقرار وحماية السلام الاجتماعي تارة، أو مراعاة مصالح محدودي الدخل تارة أخرى، أو تذويب الفوارق بين الطبقات تارة ثالثة، وغيرها من الشعارات الكاذبة، التي تستخدم لتبرير كراهية النجاح ومحاربة الناجحين واضطهاد الموهوبين، حتى تختنق الأحلام، ويحجم كل صاحب مبادرة عن العمل الخلاق، أو يهاجر هرباً من هذا الجو المسموم، ويترك وطنه لينتمي لمجتمعات أخرى يحقق فيها النجاح ويحصل على التقدير، فتستفيد تلك المجتمعات من هذه الموارد البشرية النادرة، بعد أن اضطُهدت تلك الموارد في أوطانها الأصلية.

ولأن أصحاب الرؤى والمبادرات هم عملة نادرة، ويخضع ظهورهم لنسب إحصائية ضئيلة، فإن فقدان واحد منهم يمثل خسارة فادحة لا تعوض بسهولة، أما موضوع أن "مصر ولادة" وأنها قادرة على إنجاب "سيد سيده"، فهو قول حق يراد به باطل. فمصر ولادة بحق، ولكن إذا كانت طبيعة النظام هي أن يقضي على الموهوبين أولاً بأول، ويبعد أصحاب الفكر، ويطارد أصحاب المبادرات بصورة تلقائية، فكثرة الولادة لن تفيدنا بشيء، سوى أن تتسبب في تفشي البطالة والفقر والجهل، واستشراء السماجة والسخافة، وانهيار الفنون والآداب والعلوم، وتدهور النشاط الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، فضلاً عن تدني الذوق العام وتسمم المناخ المحيط بالحياة اليومية لكل منا.


نهاية الغضب؟

من يصنع هذه الرؤى ومن يقدمها للناس ويحشد الدعم المجتمعي حولها؟ لقد أثبت النظام عجزه عن مجرد البصر "الشوف يعني"، وبالتالي فلا يصح أن نطالبه باستلهام الرؤى، بل نتمنى له نوماً هادئاً يخفف عنه آلام الشيخوخة. هل يمكن أن نعهد بهذه المهمة للنخبة المثقفة؟ النخبة المثقفة موجودة على المقاهي تشد أنفاس العنب الفاخر، وفي المنتديات الفكرية تتحدث عن التقعر الأيديولوجي المتعامد على التماس الدوجماطيقي، وعلى سلالم نقابة الصحفيين، تصرخ "باطل" وتلوح في غضب شديد. نفس الشيء على الإنترنت. منتهى الغضب وآخر جرأة في النقد والله ينور بصراحة. طب وبعدين؟ نستورد "حد" يفكر لنا في رؤية؟

أما لهذا الغضب من نهاية "عشان نشتغل بأه شوية ونبطل نرفزة ونأورة"؟

إن أسباب الغضب مفهومة ومعروفة. والغضب على الأوضاع السيئة شيء مطلوب ولابد منه. ولكن، يجب أن نبدأ في استثمار طاقة الغضب على الأوضاع التي لا تعجبنا، ونحولها لطاقة إيجابية لبناء المستقبل الذي نتمناه. لابد أن نجلس سوياً لنتحدث عن هذه الرؤية الغائبة، في هدوء وصفاء نفسي، بعيداً عن الهتافات الغاضبة.


بناء أمة عظيمة

إن مصر تحتوي على عوامل كامنة تجعلنا نستطيع بناء أمة عظيمة مرة أخرى في سنوات أو عقود قليلة، بشرط أن نعرف أولاً من نحن، وما هي عوامل تميزنا وتفردنا عن غيرنا من الأمم والدول، ونرسم لأنفسنا رؤية مستقبلية تتسق مع تعريفنا لهويتنا وواقعنا والعوامل التي يمكن أن تمثل مزايا تنافسية لنا كدولة، ثم نضع الخطط اللازمة للوصول لتلك الرؤية، ونبدأ في تنفيذها دون إبطاء. وعلى سبيل المثال، موقع مصر في "سرة" العالم يقدم لنا مزايا لا يمكن منافستها. وضع مصر الحضاري والثقافي كمركز إشعاع للفنون وصناعات المحتوى هو ثروة لابد أن نبحث عن مفاتيح تفعيلها وإطلاقها. الثمانون مليون مصري يمثلون طاقة بشرية جبارة إذا أحسنا تعليم وتدريب أبنائنا وأطلقنا العنان لطاقاتهم الخلاقة بعيداً عن مفرخة التعليم التشكيلي الذي يفرز أشباه المتعلمين ويلفظ الموهوبين والمتميزين. تحدثنا الحكومات المتعاقبة عن المصريين وكأنهم قنابل موقوتة ورزايا (جمع رزية) يجب أن نشكر الحكومة على احتمالها. ولكننا نقول لتلك الحكومات، أن هؤلاء المصريين هم ثروة مصر الحقيقية، إذا أحسنا استغلال هذه الثروة. وأتذكر أحد العبارات التي كتبتها على لسان مصر تخاطب بها الوالي: "إن ترغب في الاستفادة من الكنز، أنا أدلك على مكانه. في قلب كل واحد من أبنائي وفي ساعديه وفي رأسه. فإذا قيدت ذراعيه بالسلاسل، وجعلت قلبه حزيناً، ووطأت رأسه بحذائك، فلا تشكون من الفاقة وسوء النهاية".

مصر الجديدة

إن مصر الجديدة التي لابد أن نبحث عنها، تشبه مصر القديمة في الكثير من القيم التي يتعين علينا أن نعيد اكتشافها في أنفسنا. قيم التسامح والتعددية. قيم الخير والحب والجمال والحق والعدل. قيم منظومة "ماعت" التي اتسمت بالتوازن فولدت الحضارة من رحمها. قيمة الفكر وإعلاء العقلانية في كل مجال. قيم التعاطف والتكافل المجتمعي. مصر الجديدة التي يجب أن نسعى لبنائها، دولتها مدنية، تحتضن جميع أبنائها بصرف النظر عن عقيدتهم أو لونهم. تساوي بين الجميع أمام القانون. تضع الكفاءة لا المحسوبية أو اسم العائلة أو "كشف الهيئة الاجتماعية"، في مقدمة معايير اختيار الشخص المناسب. مصر التي نتمناها لابد أن تتخلص من التطرف والتعصب ودعاوى الهوية الدينية التي تهدد وحدة نسيج أمتنا. مصر عرفت الدولة والحضارة والدين قبل ظهور الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية بآلاف السنوات. ورغم التداخل بين الدور السياسي والديني للفرعون في مصر القديمة، إلا أننا رأينا سكان الأقاليم المختلفة يعبدون آلهة محلية أو قومية متعددة دون أن يفرض إقليم على إقليم آخر عبادة إله بعينه. لم يحدث هذا سوى في عصر أخناتون، الذي ربما يكون أول إنسان ينادي بالتوحيد، ولكن عصره لم يدم طويلاً، عادت بعده مصر تحتضن التعددية وتنبذ الأحادية في التفكير.


أحلام مصر الجديدة

نتحدث عن النهوض بالاقتصاد والاستثمار، وعن تطوير التعليم والثقافة، و كل هذا جميل، ولكنني أقول لكم بكل صراحة، بدون حلم عظيم، بل أحلام عظيمة لمصرنا الجديدة، لن نتقدم خطوة إلى الأمام. لابد أن نغير من أنفسنا ومن طبائعنا السوداوية لنتبنى التفاؤل وطرق التفكير الإيجابية. لابد أن نسعى لتغيير نظمنا والقوانين واللوائح العقيمة التي تحكمنا حتى نشجع المبادرة الفردية والجماعية، نكافئ من ينجح، ونساعد من يتعثر حتى يقف على أقدامه مرة أخرى، لابد أن نستفيد من الحالمين والموهوبين المضطهدين قبل فوات الأوان. لابد أن نحول طاقة الغضب إلى قوة دافعة إيجابية لبناء المستقبل الذي نحلم به لمصر،ونتوقف عن تبادل السباب واللعنات، ونخرج من الحلقة المفرغة التي لن تؤدي إلا للمزيد من الإحباط والاكتئاب. بدون بناء دولة مدنية تساوي بين جميع المصريين قد نرى حرباً أهلية تفتت أمتنا. بدون تداول المقاعد في كل موقع، والحرص على تشجيع الحراك الاجتماعي في كل مجال، سوف نتكلس ونتحجر، وندخل التاريخ كأول أمة معاصرة، يتم تصنيفها ضمن الآثار الغابرة.