فلنلتقي في الجحيم

4.3.08 |


بقلم ذي إنوسنت

نحن البشر أشبه بجبال الجليد، لا يظهر منها إلا القليل الذي من خلاله ندركها ونميزها، بينما يظل الجزء الأكبر منها مغموراً تحت المياه. هكذا نحن، فالجزء الأكبر من حياتنا مغمور في بحيرة الإنسانية التي فيها نتقاسم كل الصفات ونتبادل كل الآراء التي لا يختلف حولها بشر. وهذا الجزء هو مساحة مشتركة من الحواس والغرائز والمجردات التي تشمل أمورا كالحق والحرية والعدل والسلام والمحبة والتسامح. وهذه المساحة لم تأتي بسهوله، ولكنها ما خَلُصَت إليه الإنسانية طوال فترة تطورها.

هذا بينما يظهر جزء أخر فوق هذه المساحة المشتركة يعطي لكل منا صبغته. فهو جزء تكمن فيه فرادة الإنسان، هو مساحة من الاختلاف. أفكار وتوجهات مختلفة وخارجة عن المألوف منها انبثق الإبداع وأتى الإنسان إلى الدنيا بكل جديد ومستحدث. هو جزء مستحق لأن نشكره على ما نحن فيه من علم وحضارة. ولكن ولأن الحركة والتغيير يتطلبان الجهد، ويحملان في باطنيهما نسبة من المجازفة، وقد يهددان مصالح البعض، وُجِدَ من يقاوم الإبداع والتغيير على مر العصور. ليس ذلك فقط، ولكن الأمر تطور لنرى من يقاوم اختلاف الآخر ووجود الاختلاف، ويقاوم الآخر ووجود الآخر.

ففي مجتمع كالذي نعيش فيه بمصر يمكنك بسهولة ملاحظة التوجه الأحادي في كل مجال. فهنا الرؤية السياسية الوحيدة، والدينية الوحيدة، والاجتماعية الوحيدة، والاقتصادية الوحيدة. ويا لهول ما سيلاقيه من يخرج عن المألوف بغض النظر عن تقييم جدوى فكره. أنه من الصعب تقبل مثل هذه الفكرة وسط مجتمع هو أقرب إلى القطعان البرية منه إلى أي شيء أخر.

إن وجودك عزيزي الآخر لينتقص من حريتي التي أريدها مطلقة ومن أنانينتي التي تهوى إمتلاك كل شيء. وفي كل يوم أفترض فيه وجودك وحقك بالحياة المساوي لحقي تماما، أجد معاناتي تتعاظم إزاء كل قرار ولو بسيط. أجدك في الشارع وفي المواصلات والعمل، بل في بيتي، في الفراش إلى جواري وفي الحمام أيضا. تلاحقني في اليقظة والحلم. لا استطيع انتزاعك من عقلي لحسم صراع فكري قد نشب برأسي يوم أعترفت بك ككيان مساوي ليّ. أذهَبُ – أنا - إلى الجحيم في كل مرة ينطلق بها الفكر في عقلي وأجدُني مضطرا لكبح جماحي والتروي حتى ما أرى وجودك إلى جواري في الصورة. لم أعد أستطيع أخذ قرار دون الرجوع إلى حقيقة أنك تشاركني الحياة.

في كل فكرة أجدني مضطرا على الخروج من ذاتي ومن كياني الفريد لأغوص في الأعماق الإنسانية التي أتقاسمها واياك، حتى أرى وقع فكري عليك. وقد تضطرني الظروف أحيانا للدخول إلى ذاتك الفريدة التي يعثر علي كشف جوانب فرادتها حتى تكون لديّ صورة أوضح. بكل بساطة أضع نفسي مكانك لأرى الأمور من زاويتك وأزنها بميزانك.

أليس ما سبق هو الجحيم عينه؟ لما لا تذهب أنت إلى الجحيم وأهنأ أنا بالحياة؟ أسئلة تطرأ ببالي بينما أقاوم نيران جحيمك، أهدأ قليلا وأجدني مديون بوجودي لآخر، وبفكري لآخر، وبسؤالي لآخر. وأنظر حولي لأرى لمستك المُبدِعة وقد زيّنت الحياة، فإذ بي متجاهل الجحيم وممتناً جدا لك ولوجودك.

لطالما كان وجودك سبب صراع دائم. صراع حين يتنبه إليه أصحاب العقول المستنيرة يخرجون منه بالخير كل الخير للحياة، ويرون أن حسمه خير الحسم هو عدم حسمه على الإطلاق. ولكن حين يكون طرفاً في الصراع من هم أضعف من ارتياد جحيم الآخر، ومن هم عاجزين عن إدراك فضل وجود الآخر، نجدهم يحسمون الصراع بإحدى طريقتين. فإن كانوا في موقف الأقوى نجدهم يحرمون الآخر حق الوجود فلا يعلو له صوت ولا تتقد لجحيمه نيران. والشرق العربي يتعامل داخليا بهذه الفكرة. فإن تيارات سياسية ودينية كاملة تمارس الحجر على الآخر وتسلبه وجوده المساوي وما يترتب عليه من حرية ومساواة. أما إن كانوا في موقف الضعيف، فبمنتهى السلبية تجدهم يدفنون الرأس في الرمال مغمضين العيون عن حقيقة وجود الآخر مستسلمين للحياة وله دون مقاومة بينما ينادون في داخلهم بأمورا كالقيادة والكرامة والوجود المؤثر والفعّال. والشرق العربي يتعامل خارجيا بهذه الفكرة. فهم المنتصرون رغم خسارتهم للحروب، والمتقدمون رغم التقهقر، وحاملي مشاعل التنوير بعقول مظلمة.

إن العلة الكبرى لمجتماعتنا أنها أضعف وأجبن من الأعتراف بوجود الآخر. إن مجتمعاتنا تعاني سطحية تجعلها تخشى الخروج من ذاتها لتضع نفسها محل الآخر الذي تتعامل معه دائما بإحدى الطريقتين السابقتين. إن مجتمعا ما لن يتقدم إلا بإقرار وجود الآخر ككيان حر مساوي. بل وبالأعتراف باختلاف هذا الآخر وفرادته. ثم بالمناداة بقبول اختلافه والعمل على توجيه هذه الاختلافات جميعا لصالح التقدم والتمدين والحضارة. ولن يستطيع المجتمع إنجاز مثل هذا العمل مالم يضمن للآخر حرية الاختلاف. وبرأيي لن ياتي هذا الضمان مالم يستند المجتمع في أعرافه وقوانينه على قواعد إنسانية مشتركة منبثقة من المساحات التي يقف عليها جميع البشر. أعرافُ تلزم الجميع بالإنسانية ولا تلزمهم بتبني اختلافات القوي. أعرافُ لا تستند على مساحات الاختلاف تلك التي تميز بين لون ولون وجنس وجنس ودين ودين وايديولوجية وأخرى، وجميعها تقع في مناطق الاختلاف. إن توجها مدنيا إنسانيا وحده قد يستطيع أن يراعي الاختلافات ويوجهها للصالح العام وهو ما ننشده من وراء القول.

أدعوك عزيزي الآخر لتبادل القبول والأحترام مهما كنا مختلفين. وبمعنى أخر أدعوك لنتعامل معا كبشر وكبشر فقط. أدعوك لتخرجني من حسابات اختلافك. أدعوك لتخرجني وحقي في الحياة المساوي لحقك من مرجعياتك السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية كافة. وأدعوني للإلتزام حيالك بما أدعوك إليه. أدعوني واياك للغوص في المشترك الإنساني معا حتى نستطيع أن نلتقي في الجحيم، أقصد في الاختلاف. نلتقي بشكل ايجابي وبنّاء لصالح حياتنا ومجتمعاتنا، لصالح الإنسان