لماذا سيطر الفكر المتشدد على بلادنا

12.12.08 |


بقلم ايجي اناتوميست

أتحدث – تحديدا - عن سطوة وانتشار الأسلمة السياسية والثقافية في المجتمع والدولة. ليس مصر فقط. مصر جزء من كل أكبر اسمه العالم العربي والعالم الإسلامي. هوية مصر عربية إسلامية شئنا أم أبينا. الهوية ليست ما تعتقده أنت عن مصر. الهوية هي ما يعتقده أغلبية الشعب المصري عن مصر. الأغلبية ترى مصر دولة إسلامية عربية. إذن فلا تحليل سليم لمستقبل مصر إلا ويجب أن يمر عبر الطريق العربي الإسلامي أولا وقبل أي شئ

نبدأ بالتحليل.

هذه منطقة ظلت خاضعة للحكم الإسلامي الممثل في دولة الخلافة لقرون طويلة. تكونت بها ثقافة معينة تعتمد أساسا على النظرة الدينية للعالم وأموره. لم تمر بالخلافات الدينية الطاحنة كمثل التي مرت بها أوروبا مثلا في عصورها المظلمة والوسطى وأدت لبزوغ فكرة العلمانية وانتصارها على فكرة الحكم الديني. هذه منطقة عاشت قرونا في ازدواجية نفسية صعبة وحادة. تريد التقرب من الله وبلوغ جناته ولا تستطيع في ذات الوقت الوفاء باستحقاقات ذلك بسبب طبيعة البشر. فباتت تفعل في السر ما تحتقره في العلن. هذه منطقة اصطبغت فيها السياسة بطابع فرعوني إلهي امبراطوري شديد السلطوية والاستبدادية. هذه منطقة يسود بها مجتمع طبقي تراتبي أبوي ذكوري. مجتمع يقوم على فكرة "الكبير" الذي إن لم يوجد بشكل طبيعي يتم شراءه، ثم تنصيبه إلها علينا، هذا الكبير قد يكون شخص، مؤسسة، كتاب، فكرة، أو أي شئ آخر، المهم أن يكون هناك كبير أو عدة كبراء!

هذه هي ثقافة المنطقة التي تكونت عبر قرون الحكم الخلافي الديني.

انهارت الخلافة العثمانية – بحكم التطور الطبيعي لأي نظام حكم بلغ أرذل العمر وأصبح عبئا على الجميع - وبات هناك فراغ سياسي/ثقافي كبير في المنطقة. اهتزت الهوية العربية الإسلامية بشدة، وكان لا بد من ظهور ما/من يملأ الفراغ.

ظهر مشروعان أساسيان صاغا مستقبل المنطقة عبر القرن العشرين بأسره.

المشروع الأول هو المشروع التحديثي على الطريقة الغربية وقاده كمال أتاتورك في قلب الخلافة العثمانية نفسها – تركيا. كان هذا المشروع متأثرا بهزيمة الدولة العثمانية الفادحة أمام القوى الغربية في الحرب العالمية الأولي. كان متأثرا بالتخلف الحضاري والعلمي والاقتصادي الذي بان واضحا أمام التفوق العسكري والاقتصادي الأوروبي. كان متأثرا بأفكار عصور النهضة والتنوير في أوروبا. كان متبعا لفكرة غاية في البساطة: إذا كانت الخلافة – حامية الإسلام – قد تخلفت إلى هذا الحد وهي تحكم بالشرع والدين، بينما تفوقت أوروبا لهذا الحد لأنها نحيت الحكم بالدين جانبا وحكمت بالعقل والديمقراطية، إذن فلتتغير ثقافتنا ونظام حياتنا كله، ولنتقدم.

المشروع الثاني الذي ظهر كرد فعل على المشروع الأول هو المشروع الإسلامي. ويتجلي في تأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، أي بعد انهيار دولة الخلافة بسنوات قليلة. هذا المشروع انطلق أساسا لمواجهة الاستعمار الغربي لشعوب العالم العربي والإسلامي، وكان الدين بالنسبة له هو محفز مواجهة الاستعمار – المسيحي أو الكافر – وهو دعامة مقاومة ألاعيب الاستعمار ومحاولاته لغزو ثقافتنا وطريقة عيشنا. اعتمد المشروع الإسلامي على أفكار التراث الإسلامي وعلى ضرورة عودة دولة الخلافة أو تحقيق نوع من الوحدة الإسلامية التي تمكن المسلمين من مواجهة أعداءهم، فضلا عن التركيز الثقافي على أهمية الالتزام بتعاليم الله ومنهج الشرع في كل أوجه الحياة من أجل أن يرضى الله عنا فيبارك خطواتنا وينصرنا على القوم الظالمين.

سار المشروعان متوازيين. ازدهر المشروع الأول وتألق في عديد من الأماكن في العالم العربي – الذي كان قد بدأ في التحول إلى دول (دولة قومية أو
nation state)
ومع الحرب العالمية الثانية وظهور الاتحاد السوفيتي – الشيوعي العلماني - كقوة عالمية تساند حركات التحرر في العالم الثالث، بلغ ازدهار المشروع التحديثي الغربي في العالم العربي عنان السماء، ووصلت للحكم نخب عسكرية قومية علمانية مؤمنة بالتحديث الغربي، ومن ضمنها مصر، وساد هذا المشروع حتى هزيمة عام 1967.

لم يعن ما سبق انطفاء أو اختفاء المشروع الديني، فقد توارى فقط عن الأنظار بسبب قوة المد القومي القائم على أسس علمانية عقلانية. ومثل اصطدام التيار القومي بالغرب عاملا إضافيا سبب انحسار المشروع الديني الإسلامي، إذ أن اقناع شعوب المنطقة – ومنها الشعب المصري – بتفوق المشروع الإسلامي على المشروع القومي كان صعبا بشدة، مع الجاذبية الناصرية، وتحدي الغرب، وعدم تفاقم المشاكل الاقتصادية/الاجتماعية بسبب صغر حجم السكان وقتها وضعف وسائل الاتصالات الذي أدى لعدم ظهور المشكلات الحياتية بالشكل الذي ظهرت عليه بعد ذلك.

ومع تغير هذه الأوضاع، بات حتميا أن يزدهر المشروع الإسلامي ويعود إلى الصدارة. انهزم المشروع القومي العلماني في عام 1967. أصبح تحدي الغرب وإسرائيل مستحيلا في عيون الشعوب العربية المسلمة إلا باستدعاء قوة أكبر من القومية والعلمانية وهي الإسلاموية. أسلمة كل شئ – حتى الملبس والمشرب والمأكل - حتى يساعدنا الله وينصرنا على إسرائيل والغرب. ازدهر الاقتصاد الخليجي نتيجة دم المصريين الذي سال فوق رمال سيناء، وطارت الأفكار البدوية التي تقدم نسخة متشددة للإسلام عبر البحر الأحمر والمتوسط لتصبغ كل العالم الإسلامي – بدرجات متفاوتة – بصبغة متطرفة منغلقة.

ولكن كان أهم ما دفع المشروع الإسلامي لصدارة الساحة السياسية هي ما يمكن أن نطلق عليه أزمة الاقتصاد السياسي الدولي في الثمانينات. فقد انهارت أسعار النفط بعد فورة ارتفاعها في السبعينات مخلفة وراءها أنظمة حكم تعاني من اختلالات في الميزانيات وعجز في السيطرة الاقتصادية على دولها، مما أدى إلى تصاعد دور المعارضة السياسية لهذه الأنظمة السلطوية، وغنى عن البيان أن المعارضة السياسية في العالم الإسلامي هي دائما معارضة دينية. أضف إلى ذلك الانهيار الكبير في حجم المساعدات الاقتصادية الغربية للمنطقة مع تدهور قوة – ثم انهيار – الاتحاد السوفيتي وتراجع الأهمية الاستراتيجية للمنطقة في معادلات الحرب البادرة، فلم تبق إلا الأهمية الاقتصادية الممثلة في البترول وهذه لا تحتاج لتقديم مساعدات، فيكفي سعر البترول وما يدره من بلايين!

إذن، في الثمانينات، تعاظم التأثير الاجتماعي والثقافي للجماعات الإسلامية – بخلاف الانتقال الأيديولوجي الوهابي من السعودية تحديدا لكل العالم الإسلامي – بسبب ضعف قوة الدولة الغارقة في أزمات اقتصادية عنيفة. ومن هنا ازدادت أسلمة المجتمع بشكل ملموس، وانتشر الحجاب واللحى وسيطرت مفردات عذاب القبر وتكفير المجتمع وما إلى ذلك مما كان قبل الثمانينات منحصرا بين متبعي هذه الجماعات ولا يتعداها للشارع والعامة.

وتأتي التسعينات بما يعزز أكثر سيطرة التيارات الدينية المائلة للتشدد على الساحة الإسلامية في الدول العربية بالذات. فقد أعطى الوجود العسكري الأمريكي في السعودية بالقرب من الأماكن المقدسة، والهزيمة الساحقة للعراق في حرب 1991 أمام الجيوش الغربية، دوافع أشد لازدهار الفكر التكفيري المتطرف الذي يدعو للجهاد بلا تمييز وضد أي شخص أو جهة يراها الفقه الجهادي مُعادية لله ورسوله، فضلا عن انهيار الاتحاد السوفيتي وخلو الساحة الغربية والإسلامية من العدو المشترك الذي طالما قاتلاه سويا، فانتقلا لقتال بعضهما البعض، حتى وصلا لحادثة 11 سبتمبر الشهيرة والتي أدت ردود الفعل عليها لتعزيز المشروع الديني بل وإعطاءه كثير من المشروعية وسط الملايين الذين هالهم رد الفعل الأمريكي العنيف.

ونأتي للوقت الراهن، الذي مازال يشهد نفس المعطيات، وإن كانت أعمق وأكثر تكثيفا.

الغرب في المنطقة كما لم يحدث من قبل. الحكومات تفتح أبواب الحرية والديمقراطية على استحياء – ومرغمة – فتدخل تيارات الإسلام السياسي لتملأ الساحة. الثقافة العربية الإسلامية بطيئة التغير وتميل بشدة ناحية تفضيل الحكم تحت شعار الإسلام والدين. التسامح – مع ما يراه المسلمين من اضطهاد لهم – يكاد يختفي تقريبا ويحل محله كم لا نهائي من التعصب ورفض الآخر. الحكومات العلمانية في المنطقة مازالت تتخبط في مسار التنمية الاقتصادية ولا تستطيع أن تحقق انجازا تنمويا يستميل إليها أفئدة شعبها. الأموال الخليجية بلا نهاية والفكر المتشدد – الذي يحفظ العروش – هو البطل. التأثير الإيراني – السياسي والديني – يملأ الساحات الفارغة في العالم العربي ويجر وراءه أتباع عرب من المذهبين: حزب الله الشيعي، والأغرب منه حماس السنية! وأمامها سوريا البراجماتية الطامعة في تحقيق أي مكسب يحقق لها الهدفين الأهم لها: الحفاظ على نظام الحكم واستعادة الجولان بدون حرب.

يخطئ من يتصور أن مستقبل مصر منفصل عن مستقبل المنطقة. لم يحدث عبر تاريخ الشرق الأوسط الطويل أن سارت الأغلبية في طريق وسار أحد الأعضاء وحده في طريق آخر. كانت مصر عبر التاريخ تؤثر وتتأثر بمحيطها. كانت تقود اتجاهات سياسية/فكرية ما وتنقاد أحيانا وراء اتجاهات أخرى.

كل ما نقرأه من معطيات يؤدي لنتيجة واحدة: إنه زمن التطرف، زمن تراجع الفكر الحر والدولة المدنية. ولسوف ينقضي وقتا قبل بزوغ شمس الحرية والتقدم والنور على بلادنا. أما عن مصر وما يمكن أن يحدث فيها قريبا، فلهذا حديث آخر

1 comments:

Anonymous said...

تحليل رائع.. وأتمنى ألّا يطول التخلف والإنغلاق لقرون كما حدث في أوروبا.