حق في الحياة .. و حياة في الحق
نقبل أن يختلف معنا من يشاء بشأن العلمانية و الدولة المدنية و الليبرالية و غيرها ، فهي مباديء و أفكار إنسانية تقبل الاختلاف و التغيير و التطوير ، لكنَّا يحزننا لا ريب أن تهاجم هذه المباديء الجليلة من منطلق ديني إسلامي ، فكم من فقيه و كم من "داعية فضائي" من رواد الفضائيات لا الفضاء، يتهم من يختلف عنه بالعلمانية و الليبرالية و كأنها تهم تخل بالشرف؟ و كم منهم يستخدم لفظ العلمانية كمرادف للكفر و الإلحاد؟ عن جهل حينا و عن غرض في أكثر الأحيان ، و لبيان كذبهم و تهافت بيانهم، ندعوكم اليوم لرحلة قصيرة مع سيد الخلق ، محمد في هجرته و بناء دولته في المدينة المنورة ، لنرى معاً معالم الدولة المدنية العلمانية في دولة الإسلام الأولى بالمدينة المنورة ، و لسنة النبي و مرجعيته أهدى للحق ممن يفترون عليه الكذب لأغراض في صدورهم
فلو اتفقنا أن الدولة العلمانية كما عرفتها الموسوعة البريطانية هي الدولة الغير منحازة مع أو ضد دين من أديان مواطنيها ضد آخر، و لا تفرق بين مواطنيها على أساس ديني أو عرقي أو جنسي أو طائفي، و تصنع فيها القرارات من خلال مؤسسات المجتمع المدني المتخصصة بعيدا عن سلطة الكهنوت، ثم اتفقنا بعدها أن نقارن هذا التعريف بواقع دولة المدينة المنورة في إبان حكم الرسول و الراشدين من بعده، لظهر لنا تهافت دعاوى الحكم "بالاسلام" التي يدعيها الاخوان و من شابههم، و في مقالنا اليوم و ما يتبعه من مقالات، نتطرق للمناحي التالية من البنيان النبوي لدولة الرسول:
أبطال رحلة الهجرة : مشرك و إمرأة و عبد
انشغلنا كعادتنا التراثية بجانب "الحدوتة" في هجرة النبي ، و خاصة ما كان منها إعجازياً كأمر الحمائم و العناكب و فرس "سراقة" الذي غاصت قوائمه ، و التهينا عن النظر في أمور أعمق و أجل في عبرتها، و هي كذلك أهدى لنا في حياتنا؟ و لعل أول ما يلفت النظر في رحلة الهجرة برأينا ، تلك الوقفة الخداعية التي قام بها الرسول بغار "ثور" ، ثلاثة أيام كاملة ، حتى يوغل فرسان قريش في الطريق الى المدينة المنورة، فيكون مطاردوه أمامه ، يجدون السير ظناً بأنه يسبقهم ، أما ثاني هذه الأمور فهو رمزية التنوع المثري في الشخوص المحورية لرحلة الهجرة، فقد كان أبطال الهجرة أربعة أشخاص، بخلاف النبي و صاحبه ، فأما الأول فكان "عبد الله بن أبي بكر" ، و كانت مهمته نقل أخبار الموقف السياسي للرسول في مقره المؤقت، و أما الثانية فكانت أخته "أسماء بنت أبي بكر"، تحمل لرسول الله و أبيها الشراب و الطعام، فاما الثالث فهو "عامر بن فهيرة" ، المولى الأسود الذي كان عبدا لأبي بكر فأعتقه ، و كان يرعى الضأن حول الغار ليطمس آثار الأقدام، و قيل أنه هو من أتى بالراحلتين للمهاجرين في اليوم الثالث، و اما الرابع فدليل رحلة الهجرة ، "عبد الله بن أريقط" ، و كان مشركا على دين قريش، لكن الرسول و صاحبه إئتمناه على سر الهجرة ثقة في كفاءته و ضميره المهني ، و واعداه عند الغار في اليوم الثالث، و قيل أيضا أن الابل كانت معه أمانة و ليست مع "عامر"، و هذا وثني مغاير في الدين و به تتم دائرة التنوع المثري، ذكر قرشي مسلم ، فتاة قرشية مسلمة ، ذكر أسود مسلم ، و ذكر قرشي وثني ، فأي مجال بعد ذلك لتبرير تمييز المسلم على غير المسلم في المناصب أو مواقع القيادة؟ أو لتمييز رجل على إمرأة؟ او ابيض على اسود؟ أليست هذه العدالة التي لا تفرق على أساس الدين أو العرق أو الجنس هي عماد مؤسس من أعمدة المدنية و العلمانية التي يدعون مخالفتها للإسلام؟
الأساس العلماني للمواطنة في دولة المدينة
قام صلوات الله عليه في المدينة بتدعيم ركائز المجتمع المدني من خلال تعميق مبدأ المواطنة، و ذلك في ثلاث خطوات مرحلية ، أولها كان التأكيد على نبذ العنف بين الأوس و الخزرج ، لكونهم إخوان في ظل الدولة الناشئة ، و لأن نبذ العصبية القبلية يعد من مباديء الإسلام الجوهرية، و ثانيها دمج و تضمين للمهاجرين الجدد في مجتمع المدينة المنورة من خلال فكرة المؤاخاة بين المهاجرين و الأنصار، حتى لا يتحول المهاجرون بمرور الوقت إلى كانتون منعزل عن الأنصار ، فشجعهم الرسول على المساكنة و المصاهرة فيما بينهم ، بهدف زيادة تجانس المجتمع المدني، ثم كانت بعد ذلك خطوته الثالثة ، و هي معاهدة يهود المدينة ، و التي بمقتضاها صاروا جزءا من نسيج هذا المجتمع ، فلم يدفعوا الجزية و لم يضطروا إلى أضيق الطريق كما يدعي البعض ، و لنا أن نعلم ان الجزية لم تفرض أساسا إلا في مرحلة الامبراطورية كرمز للتفوق و السيادة على الامم المفتوحة و كمصدر تمويلي للجيش الامبراطوري ، و هو أمر معهود تاريخيا و كان آخر حدوثه في الحرب العالمية الثانية، حين كانت حكومة "فيشي" تدفع الجزية للجيش الألماني المحتل في باريس.
و كثيرة هي المواقف التي تشهد بتعادل حقوق المواطنة في دولة الرسول ، مثل التأكيد على مساواة المرأة بالرجل في الحقوق و الواجبات، و من مثل ذلك قوله "إنما النساء شقائق الرجال، ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم" (رواه أحمد)، فتحقيق المساواة في مجتمع رعوي يعتمد على عضلات الذكور في الاستيلاء على المرعى و حمايته يشير إلى عمق منطق المواطنة و حقوق الانسان في دولة الرسول ، حتى لو اقتضت الضرورات الاجتماعية مرحليا التفريق في نسب الميراث أو اقتضت الحالة الذهنية للمرأة وقتها ،اعتبار شهادتها على النصف من شهادة الرجل بصفة مرحلية أيضاً
و كما عدلت دولة الرسول بين مواطنيها من الجنسين ، كذلك عدلت بين الناس بدون تمييز عرقي أو ديني ، فنراه يمنح شرف الانتساب الروحي لآل بيته لمن كان غريبا مهاجرا عندما قال في "سلمان الفارسي" تكريما و تقديرا "سلمان منا آل البيت" (موقوف عن علي بن أبي طالب) ، و أخيراً ، لكل دعاة العنصرية الدينية، نذكرهم يوم وقف النبي احتراما للموت عند مرور جنازة يهودي ، فقال له بعض جلسائه " يا رسول الله إنها جنازة يهودي" فيرد النبي بحدة ظاهرة من تكرار العبارة "سبحان الله ، أوليست نفساً؟ أوليست نفساً؟ أوليست نفساً؟" (رواه مسلم). و لفظ الذمي الذي يستخدم اليوم انتقاصا من مواطنة شركاء الوطن من المسيحيين ، كان بالأساس لفظ تأكيد على حقوقهم في كامل المواطنة بجعل حقوقهم في ذمة الله و رسولهم ، حتى لا تغري الكثرة العددية المسلمين بالتحزب العنصري المقيت ضدهم.
المناصب لأهل الخبرة لا لأهل التقوى
كانت عبقرية "خالد بن الوليد" العسكرية معروفة للمسلمين من قبل إسلامه ، فهو صاحب الالتفافة المنتصرة عليهم في "أحد" و لهذا وضعه الرسول من ضمن قيادات غزوة "مؤتة" بعد إسلامه بشهرين إثنين، تحت قيادة "زيد بن حارثة" و الذي استشهد بهذه الغزوة ، و عاد "خالد" للمدينة بالجيش سالما لما رأى استحالة تحقيق نصر عسكري للتفوق الكبير لجيش الغساسنة و الروم ، و بهذا الانسحاب الاستراتيجي أكد "خالد" عبقريته ، فصار القائد العسكري الأثير للرسول ، و حارب تحت قيادته على عهد الرسول و "أبي بكر" كثير من كبار الصحابة، كذلك نعرف من كتب السيرة أن "أبي عبيدة بن الجراح" و هو من مهاجري الحبشة ، أي من أوائل المسلمين، قد صلى خلف "عمرو بن العاص" في غزوة "ذات السلاسل" لأن القيادة كانت لعمرو ، و قد صدق الرسول على هذا بالموافقة ، ليتجلى لنا موقف الإسلام من تنصيب القيادات بفكر علماني يهدف لتحقيق المصلحة بتولية الأكفأ و الأقدر و ليس الأتقى.
لقد كان رسول الله في هذه المواقف ملتزما بالتعليم الرباني في القرآن الكريم "قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ" (القصص:23) ، هكذا يحدد الله لنا معايير الكفاءة للمناصب و الوظائف ، فهي القوة على أداء العمل ، و هو ما نفهمه في عصرنا بأنه الكفاءة المهنية و الاحتراف و المؤهلات الدراسية و ما اليها، ثم الأمانة بمعنى الشرف المهني و الالتزام الأخلاقي في العمل ، فالفتاة هنا من واقع السورة لم تر من نبي الله "موسى" ما يدل على عقيدته ، و لكنها رأت ما يدل على قدرته و أمانته ، فبأي منطق يقول "دعاة الفضاء" في زمن الصغار الذي نعيشه "أن المسلم أولى بفرص العمل من المسيحي"؟ ثم يضيف بعضهم للإيحاء بالعدالة "لو تساووا في المؤهلات" !! فعلى أي أساس يتحدثون و هذا القرآن و هذه سنن الأفعال تثبت تهافت دعواهم؟ و هذا الذي يدعي عدالة عوراء عرجاء مضيفا شرط التساوي في المؤهلات، يتجاهل حقيقة أن تساوي شخصين في المؤهلات العلمية و الخبرة العملية و الملكات الشخصية هو فرض جدلي مستحيل؟ و أن الأولى حتى في حال تحقق المستحيل بحدوثه، أن تكون الحاجة للعمل هي المعيار و ليس الدين؟ و كذلك يظهر بطلان دعوى من يقول منهم بعدم جواز قيادة غير المسلم للمسلم في المجتمع المدني قياسا.
الحقوق المدنية
يوجز "جون لوك" ، أحد القيادات البارزة لعصر النهضة بأوروبا ، الحقوق المدنية الأساسية للأفراد في ثلاث حقوق، هي حق الحياة و حق الحرية الاجتماعية و حق الملكية، فأما الأول فقد كان من أهم الانجازات التي أدى اليها توحد الجزيرة العربية في دولة مركزية ذات سطوة تحت قيادة الرسول و الراشدين من بعده، حيث جفت أغادير الدم التي كانت تفيض عليها الصراعات القبلية المبنية على النعرات و الصراعات المادية، و أكد القرآن على مبدأ العقاب للقاتل و المجرم عموما بهدف الردع، و ذلك كقوله تعالى "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون" (البقرة:179) ، فالقصاص لغة هو تحمل التبعات ، فيتحمل الجاني تبعة جريمته ليكون عبرة لغيره، و هذا هو المبدأ العقابي الثابت بينما تعمل الحدود أو تعطل أو تستبدل بأحكام تعزيرية وفقا لحال المجتمع، و لنا في الحدود حديث يطول حين يأتي اوانه، و القصاص بالعقاب ليس حق الله ، بل حق المجتمع، لتحقيق السلام في ربوعه ، أما الله فيحاسب أو يغفر في الدار الاخرة، و جريمة القتل عند الله كبيرة جسيمة في قوله تعالى " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" (المائدة:32)
أما حق الملكية فقد كفله الإسلام بلا حدود للمسلم و لغير المسلم، و ألزم كليهما بضرائب اجتماعية توجه للتكافل الاجتماعي في شكل الزكاة و الخراج ، و هذا أمر لا يكاد يقوم بشأنه خلاف، و سنتحدث عن آليات توزيع الثروة في حينها بإذن الله، اما الحرية الاجتماعية فكفلتها دولة الرسول من خلال حرية الزواج و الطلاق ، و حرية السفر و الانتقال، و غيرها، و لتعدد ضروب الحريات، نكتفي هنا بالرد على شبهتين أساسيتين هما حد الزنا، و مدى تعارضه مع حرية السلوك الشخصي للفرد ، و موضوع إباحة الرق في الإسلام الذي كثر حوله لغط عقيم مؤخراً، فاما عقاب الزاني و الزانية سواء من المحصنين أو غيرهم، فلا نرى فيه تعارضاَ مع مبدأ حرية السلوك ، فهو مبدأ عقابي لحماية المجتمع و الذوق العام من الممارسة العلنية للجنس بالاماكن العامة! نعم ، ففي أي حالة غير حالة الممارسة العلنية بالحدائق ، يستحيل وجود أربعة شهود يشهدون على رؤيتهم العضو الذكري مولجا في العضو الأنثوي ، و هو شرط إقامة الحد، بقوله تعالى "و اللاتي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ" (النساء:15)، لهذا كانت الحدود التي طبقت بعهد الرسول و الراشدين قاصرة على حالات الاعتراف، فالأمر متعلق بالفعل الفاضح في الطريق العام ، و هو ما يخرج من باب حرية الفرد لباب ايذاء المجتمع من تعريض الاحداث و الاطفال لرؤية عملية جنسية كاملة الاركان قبل السن الذي يجب أن يتعرضوا فيه لهذا، و غيره من ضروب الاضرار بالمجتمع ، و أما الرق فكان موجودا و لا ريب في دولة الرسول، حتى مع شروط تجفيف المنابع و زيادة سبل العتق التي نص عليها القرآن، و ظل الرق موجودا بعالمنا حتى اكتشفت طاقة البخار كبديل أكثر فاعلية لعضلات العبيد، و هنا تحول الرق من ضرورة انتاجية إلى مجرد شكل من أشكال الاستغلال التي يمكن حذفها من قاموس الانسانية، و ليس في الدين ما يمنع هذا بل فيه ما يشجع عليه.
فهكذا يا أصدقائي بنيت دولة الاسلام في المدينة منذ لحظة الهجرة و حتى نهاية دولة الراشدين على دعائم علمانية و مدنية تعد متقدمة بالمقارنة بمحيطها الاجتماعي و الزمني، و قد رأينا منها اليوم جوانبا أربعة هي بلغة زماننا قبول التعددية و التنوع Diversity Tolerance و مبدأ المواطنة Citizenship الغير مبنية على الدين أو العرق أو الجنس، ثم مبدأ تكافؤ الفرص Equity of Opportunity داخل المجتمع المدني و أخيرا مفهوم الحقوق المدنية Civil Rights في دولة الرسول ، و إذا أحيانا الله للعدد القادم ، نتحدث عن حرية العقيدة و ما يتبعها من حرية التعبير في دولة الرسول بالمدينة المنورة في القرن السابع الميلادي ، و التي يريد لنا ضعاف العقول و سفهاء الأحلام منا أن نكون أقل منها تقدمية و علمانية في القرن الحادي و العشرين.
نقبل أن يختلف معنا من يشاء بشأن العلمانية و الدولة المدنية و الليبرالية و غيرها ، فهي مباديء و أفكار إنسانية تقبل الاختلاف و التغيير و التطوير ، لكنَّا يحزننا لا ريب أن تهاجم هذه المباديء الجليلة من منطلق ديني إسلامي ، فكم من فقيه و كم من "داعية فضائي" من رواد الفضائيات لا الفضاء، يتهم من يختلف عنه بالعلمانية و الليبرالية و كأنها تهم تخل بالشرف؟ و كم منهم يستخدم لفظ العلمانية كمرادف للكفر و الإلحاد؟ عن جهل حينا و عن غرض في أكثر الأحيان ، و لبيان كذبهم و تهافت بيانهم، ندعوكم اليوم لرحلة قصيرة مع سيد الخلق ، محمد في هجرته و بناء دولته في المدينة المنورة ، لنرى معاً معالم الدولة المدنية العلمانية في دولة الإسلام الأولى بالمدينة المنورة ، و لسنة النبي و مرجعيته أهدى للحق ممن يفترون عليه الكذب لأغراض في صدورهم
فلو اتفقنا أن الدولة العلمانية كما عرفتها الموسوعة البريطانية هي الدولة الغير منحازة مع أو ضد دين من أديان مواطنيها ضد آخر، و لا تفرق بين مواطنيها على أساس ديني أو عرقي أو جنسي أو طائفي، و تصنع فيها القرارات من خلال مؤسسات المجتمع المدني المتخصصة بعيدا عن سلطة الكهنوت، ثم اتفقنا بعدها أن نقارن هذا التعريف بواقع دولة المدينة المنورة في إبان حكم الرسول و الراشدين من بعده، لظهر لنا تهافت دعاوى الحكم "بالاسلام" التي يدعيها الاخوان و من شابههم، و في مقالنا اليوم و ما يتبعه من مقالات، نتطرق للمناحي التالية من البنيان النبوي لدولة الرسول:
- التنوع و ثراء التعددية في المجتمع | - الأساس العلماني للمواطنة |
- مبدأ تكافؤ الفرص | - الحقوق المدنية |
- حرية التعبير | - حرية العقيدة |
- المباديء الديمقراطية و آليات تداول السلطة | - الآليات العلمانية لتوزيع الثروة |
- العلاقات الخارجية و مرحلة الامبراطورية | |
- القانون المدني و الجنائي و رؤية جديدة للحدود | |
أبطال رحلة الهجرة : مشرك و إمرأة و عبد
غار ثور بضواحي مكة المكرمة
انشغلنا كعادتنا التراثية بجانب "الحدوتة" في هجرة النبي ، و خاصة ما كان منها إعجازياً كأمر الحمائم و العناكب و فرس "سراقة" الذي غاصت قوائمه ، و التهينا عن النظر في أمور أعمق و أجل في عبرتها، و هي كذلك أهدى لنا في حياتنا؟ و لعل أول ما يلفت النظر في رحلة الهجرة برأينا ، تلك الوقفة الخداعية التي قام بها الرسول بغار "ثور" ، ثلاثة أيام كاملة ، حتى يوغل فرسان قريش في الطريق الى المدينة المنورة، فيكون مطاردوه أمامه ، يجدون السير ظناً بأنه يسبقهم ، أما ثاني هذه الأمور فهو رمزية التنوع المثري في الشخوص المحورية لرحلة الهجرة، فقد كان أبطال الهجرة أربعة أشخاص، بخلاف النبي و صاحبه ، فأما الأول فكان "عبد الله بن أبي بكر" ، و كانت مهمته نقل أخبار الموقف السياسي للرسول في مقره المؤقت، و أما الثانية فكانت أخته "أسماء بنت أبي بكر"، تحمل لرسول الله و أبيها الشراب و الطعام، فاما الثالث فهو "عامر بن فهيرة" ، المولى الأسود الذي كان عبدا لأبي بكر فأعتقه ، و كان يرعى الضأن حول الغار ليطمس آثار الأقدام، و قيل أنه هو من أتى بالراحلتين للمهاجرين في اليوم الثالث، و اما الرابع فدليل رحلة الهجرة ، "عبد الله بن أريقط" ، و كان مشركا على دين قريش، لكن الرسول و صاحبه إئتمناه على سر الهجرة ثقة في كفاءته و ضميره المهني ، و واعداه عند الغار في اليوم الثالث، و قيل أيضا أن الابل كانت معه أمانة و ليست مع "عامر"، و هذا وثني مغاير في الدين و به تتم دائرة التنوع المثري، ذكر قرشي مسلم ، فتاة قرشية مسلمة ، ذكر أسود مسلم ، و ذكر قرشي وثني ، فأي مجال بعد ذلك لتبرير تمييز المسلم على غير المسلم في المناصب أو مواقع القيادة؟ أو لتمييز رجل على إمرأة؟ او ابيض على اسود؟ أليست هذه العدالة التي لا تفرق على أساس الدين أو العرق أو الجنس هي عماد مؤسس من أعمدة المدنية و العلمانية التي يدعون مخالفتها للإسلام؟
الأساس العلماني للمواطنة في دولة المدينة
قام صلوات الله عليه في المدينة بتدعيم ركائز المجتمع المدني من خلال تعميق مبدأ المواطنة، و ذلك في ثلاث خطوات مرحلية ، أولها كان التأكيد على نبذ العنف بين الأوس و الخزرج ، لكونهم إخوان في ظل الدولة الناشئة ، و لأن نبذ العصبية القبلية يعد من مباديء الإسلام الجوهرية، و ثانيها دمج و تضمين للمهاجرين الجدد في مجتمع المدينة المنورة من خلال فكرة المؤاخاة بين المهاجرين و الأنصار، حتى لا يتحول المهاجرون بمرور الوقت إلى كانتون منعزل عن الأنصار ، فشجعهم الرسول على المساكنة و المصاهرة فيما بينهم ، بهدف زيادة تجانس المجتمع المدني، ثم كانت بعد ذلك خطوته الثالثة ، و هي معاهدة يهود المدينة ، و التي بمقتضاها صاروا جزءا من نسيج هذا المجتمع ، فلم يدفعوا الجزية و لم يضطروا إلى أضيق الطريق كما يدعي البعض ، و لنا أن نعلم ان الجزية لم تفرض أساسا إلا في مرحلة الامبراطورية كرمز للتفوق و السيادة على الامم المفتوحة و كمصدر تمويلي للجيش الامبراطوري ، و هو أمر معهود تاريخيا و كان آخر حدوثه في الحرب العالمية الثانية، حين كانت حكومة "فيشي" تدفع الجزية للجيش الألماني المحتل في باريس.
توقيع اتفاق الاستسلام الفرنسي الذي بمقتضاه تحملت فرنسا نفقات جيش الاحتلال الألماني في شكل جزية شهرية
و كثيرة هي المواقف التي تشهد بتعادل حقوق المواطنة في دولة الرسول ، مثل التأكيد على مساواة المرأة بالرجل في الحقوق و الواجبات، و من مثل ذلك قوله "إنما النساء شقائق الرجال، ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم" (رواه أحمد)، فتحقيق المساواة في مجتمع رعوي يعتمد على عضلات الذكور في الاستيلاء على المرعى و حمايته يشير إلى عمق منطق المواطنة و حقوق الانسان في دولة الرسول ، حتى لو اقتضت الضرورات الاجتماعية مرحليا التفريق في نسب الميراث أو اقتضت الحالة الذهنية للمرأة وقتها ،اعتبار شهادتها على النصف من شهادة الرجل بصفة مرحلية أيضاً
و كما عدلت دولة الرسول بين مواطنيها من الجنسين ، كذلك عدلت بين الناس بدون تمييز عرقي أو ديني ، فنراه يمنح شرف الانتساب الروحي لآل بيته لمن كان غريبا مهاجرا عندما قال في "سلمان الفارسي" تكريما و تقديرا "سلمان منا آل البيت" (موقوف عن علي بن أبي طالب) ، و أخيراً ، لكل دعاة العنصرية الدينية، نذكرهم يوم وقف النبي احتراما للموت عند مرور جنازة يهودي ، فقال له بعض جلسائه " يا رسول الله إنها جنازة يهودي" فيرد النبي بحدة ظاهرة من تكرار العبارة "سبحان الله ، أوليست نفساً؟ أوليست نفساً؟ أوليست نفساً؟" (رواه مسلم). و لفظ الذمي الذي يستخدم اليوم انتقاصا من مواطنة شركاء الوطن من المسيحيين ، كان بالأساس لفظ تأكيد على حقوقهم في كامل المواطنة بجعل حقوقهم في ذمة الله و رسولهم ، حتى لا تغري الكثرة العددية المسلمين بالتحزب العنصري المقيت ضدهم.
المناصب لأهل الخبرة لا لأهل التقوى
كانت عبقرية "خالد بن الوليد" العسكرية معروفة للمسلمين من قبل إسلامه ، فهو صاحب الالتفافة المنتصرة عليهم في "أحد" و لهذا وضعه الرسول من ضمن قيادات غزوة "مؤتة" بعد إسلامه بشهرين إثنين، تحت قيادة "زيد بن حارثة" و الذي استشهد بهذه الغزوة ، و عاد "خالد" للمدينة بالجيش سالما لما رأى استحالة تحقيق نصر عسكري للتفوق الكبير لجيش الغساسنة و الروم ، و بهذا الانسحاب الاستراتيجي أكد "خالد" عبقريته ، فصار القائد العسكري الأثير للرسول ، و حارب تحت قيادته على عهد الرسول و "أبي بكر" كثير من كبار الصحابة، كذلك نعرف من كتب السيرة أن "أبي عبيدة بن الجراح" و هو من مهاجري الحبشة ، أي من أوائل المسلمين، قد صلى خلف "عمرو بن العاص" في غزوة "ذات السلاسل" لأن القيادة كانت لعمرو ، و قد صدق الرسول على هذا بالموافقة ، ليتجلى لنا موقف الإسلام من تنصيب القيادات بفكر علماني يهدف لتحقيق المصلحة بتولية الأكفأ و الأقدر و ليس الأتقى.
مقام خالد بن الوليد في مسجده بحمص (دفنه بالقبر ليس محققا من الناحية التاريخية)
لقد كان رسول الله في هذه المواقف ملتزما بالتعليم الرباني في القرآن الكريم "قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ" (القصص:23) ، هكذا يحدد الله لنا معايير الكفاءة للمناصب و الوظائف ، فهي القوة على أداء العمل ، و هو ما نفهمه في عصرنا بأنه الكفاءة المهنية و الاحتراف و المؤهلات الدراسية و ما اليها، ثم الأمانة بمعنى الشرف المهني و الالتزام الأخلاقي في العمل ، فالفتاة هنا من واقع السورة لم تر من نبي الله "موسى" ما يدل على عقيدته ، و لكنها رأت ما يدل على قدرته و أمانته ، فبأي منطق يقول "دعاة الفضاء" في زمن الصغار الذي نعيشه "أن المسلم أولى بفرص العمل من المسيحي"؟ ثم يضيف بعضهم للإيحاء بالعدالة "لو تساووا في المؤهلات" !! فعلى أي أساس يتحدثون و هذا القرآن و هذه سنن الأفعال تثبت تهافت دعواهم؟ و هذا الذي يدعي عدالة عوراء عرجاء مضيفا شرط التساوي في المؤهلات، يتجاهل حقيقة أن تساوي شخصين في المؤهلات العلمية و الخبرة العملية و الملكات الشخصية هو فرض جدلي مستحيل؟ و أن الأولى حتى في حال تحقق المستحيل بحدوثه، أن تكون الحاجة للعمل هي المعيار و ليس الدين؟ و كذلك يظهر بطلان دعوى من يقول منهم بعدم جواز قيادة غير المسلم للمسلم في المجتمع المدني قياسا.
الحقوق المدنية
يوجز "جون لوك" ، أحد القيادات البارزة لعصر النهضة بأوروبا ، الحقوق المدنية الأساسية للأفراد في ثلاث حقوق، هي حق الحياة و حق الحرية الاجتماعية و حق الملكية، فأما الأول فقد كان من أهم الانجازات التي أدى اليها توحد الجزيرة العربية في دولة مركزية ذات سطوة تحت قيادة الرسول و الراشدين من بعده، حيث جفت أغادير الدم التي كانت تفيض عليها الصراعات القبلية المبنية على النعرات و الصراعات المادية، و أكد القرآن على مبدأ العقاب للقاتل و المجرم عموما بهدف الردع، و ذلك كقوله تعالى "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون" (البقرة:179) ، فالقصاص لغة هو تحمل التبعات ، فيتحمل الجاني تبعة جريمته ليكون عبرة لغيره، و هذا هو المبدأ العقابي الثابت بينما تعمل الحدود أو تعطل أو تستبدل بأحكام تعزيرية وفقا لحال المجتمع، و لنا في الحدود حديث يطول حين يأتي اوانه، و القصاص بالعقاب ليس حق الله ، بل حق المجتمع، لتحقيق السلام في ربوعه ، أما الله فيحاسب أو يغفر في الدار الاخرة، و جريمة القتل عند الله كبيرة جسيمة في قوله تعالى " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" (المائدة:32)
جون لوك
أما حق الملكية فقد كفله الإسلام بلا حدود للمسلم و لغير المسلم، و ألزم كليهما بضرائب اجتماعية توجه للتكافل الاجتماعي في شكل الزكاة و الخراج ، و هذا أمر لا يكاد يقوم بشأنه خلاف، و سنتحدث عن آليات توزيع الثروة في حينها بإذن الله، اما الحرية الاجتماعية فكفلتها دولة الرسول من خلال حرية الزواج و الطلاق ، و حرية السفر و الانتقال، و غيرها، و لتعدد ضروب الحريات، نكتفي هنا بالرد على شبهتين أساسيتين هما حد الزنا، و مدى تعارضه مع حرية السلوك الشخصي للفرد ، و موضوع إباحة الرق في الإسلام الذي كثر حوله لغط عقيم مؤخراً، فاما عقاب الزاني و الزانية سواء من المحصنين أو غيرهم، فلا نرى فيه تعارضاَ مع مبدأ حرية السلوك ، فهو مبدأ عقابي لحماية المجتمع و الذوق العام من الممارسة العلنية للجنس بالاماكن العامة! نعم ، ففي أي حالة غير حالة الممارسة العلنية بالحدائق ، يستحيل وجود أربعة شهود يشهدون على رؤيتهم العضو الذكري مولجا في العضو الأنثوي ، و هو شرط إقامة الحد، بقوله تعالى "و اللاتي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ" (النساء:15)، لهذا كانت الحدود التي طبقت بعهد الرسول و الراشدين قاصرة على حالات الاعتراف، فالأمر متعلق بالفعل الفاضح في الطريق العام ، و هو ما يخرج من باب حرية الفرد لباب ايذاء المجتمع من تعريض الاحداث و الاطفال لرؤية عملية جنسية كاملة الاركان قبل السن الذي يجب أن يتعرضوا فيه لهذا، و غيره من ضروب الاضرار بالمجتمع ، و أما الرق فكان موجودا و لا ريب في دولة الرسول، حتى مع شروط تجفيف المنابع و زيادة سبل العتق التي نص عليها القرآن، و ظل الرق موجودا بعالمنا حتى اكتشفت طاقة البخار كبديل أكثر فاعلية لعضلات العبيد، و هنا تحول الرق من ضرورة انتاجية إلى مجرد شكل من أشكال الاستغلال التي يمكن حذفها من قاموس الانسانية، و ليس في الدين ما يمنع هذا بل فيه ما يشجع عليه.
الحفاظ على الآداب العامة و تكريم الإنسان باختلافه عن علنية الجنس الحيواني كانا منطق عقوبة الزنا العلني
فهكذا يا أصدقائي بنيت دولة الاسلام في المدينة منذ لحظة الهجرة و حتى نهاية دولة الراشدين على دعائم علمانية و مدنية تعد متقدمة بالمقارنة بمحيطها الاجتماعي و الزمني، و قد رأينا منها اليوم جوانبا أربعة هي بلغة زماننا قبول التعددية و التنوع Diversity Tolerance و مبدأ المواطنة Citizenship الغير مبنية على الدين أو العرق أو الجنس، ثم مبدأ تكافؤ الفرص Equity of Opportunity داخل المجتمع المدني و أخيرا مفهوم الحقوق المدنية Civil Rights في دولة الرسول ، و إذا أحيانا الله للعدد القادم ، نتحدث عن حرية العقيدة و ما يتبعها من حرية التعبير في دولة الرسول بالمدينة المنورة في القرن السابع الميلادي ، و التي يريد لنا ضعاف العقول و سفهاء الأحلام منا أن نكون أقل منها تقدمية و علمانية في القرن الحادي و العشرين.