انه التسامح يا ذكي

10.3.08 |


بقلم أبو فارس

أسكن فى مدينة صغيرة إسمها "أورلينز" تٌعد من ضواحي "أوتاوا" العاصمة الفيدرالية لكندا والتي تقع على مسافه ٢٠ دقيقه من منزلي..المسافات هنا فى أمريكا الشمالية تقاس بالوقت..فنقول مثلا مونتريال على بعد ساعتين أو تورنتو على بعد سته ساعات

المهم اليوم الثلاثاء أعمل فى صيدلية بوسط البلد في أوتاوا..أبدء العمل في التاسعة صباحا وحتى السادسة مساء


تنبهنى زوجتى أن أكون بالمنزل مبكرا لاصطحاب ابنى فارس لتدريب كره القدم (مدربه إسمه "بومار" فرنسى ومساعده "فانجاى" هندى).أتبادل حوار سريع مع جاري مارك (إنجليزي) وأنا أزيح التلج المتراكم عن سيارتي أثناء الليل..ملاحظات سريعة عن الجو وقسوة شتاء هذا العام..ونحن نتحادث تخرج زوجته بيانكا (تشيكية) لتركب السياره..قبل أن أنطلق من المنزل تعود جارتى د.أنوره (بنجلاديشية) من العمل فهي تعمل في مستشفى أوتاوا العام ويبدو عليها الارهاق من ليله طويله في قسم الطوارئ..قبل أن أصل الى "الهاى واي" يرن تليفوني المحمول..صيدلانيه زميله هيما (أيرانية) تسألني لو كان من الممكن أن نتبادل ساعات العمل فأعمل السبت بدلها وتأخذ هي الجمعة محلي..أطلب منها الانتظار قليلا..أراجع زوجتي بالتليفون إن كان لدينا أي التزامات يوم السبت..فتذكرني أننا مدعوين للعشاء عند مارتين (يهودية فرنسية) وزوجها مصطفى (تركي مسلم) يقهقه حين أدعوه "درش"!!! أعاود الاتصال بهيما وأخبرها أنه لامانع لدى وأسألها من سيكون معي في الصيدلية..فتخبرني أن لين (صينية) ستعمل معي..أواصل القيادة وأفكر..هذا يعني اني الجمعة فاضي يبقى أصلي الجمعه هنا فى مسجد بلال وأهي فرصه أتكلم مع فاروق (مهندس كمبيوتر هندى) وغلام إمام المسجد (بنجلاديشى) فأنا عضو في الحزب الليبرالي الكندي وشكلنا كده داخلين على انتخابات فيدرالية قريب ولابد من توثيق العلاقات مع الجالية المسلمة في أورلينز..وهي تتكون أساسا من مسلمي شبه القاره الهندية وبعض الصوماليين..وفى المساء أذهب الى المقهى للقاء د.عبد الصادق أستاذ علوم الكومبيوتر في جامعه كارلتون (عراقي شيعي) وأيلى (لبناني روم أرثوذكس) ود.جهاد أخصائي أمراض النسا اﻷشهر هنا (فلسطيني) وطبعا حاندبح بعض مناقشة

.وبالتداعي تذكرت أني قابلت أحد أصدقائنا المشتركين سهيل (عراقي سني) وزوجته سوسن (مصرية قبطية) فى المركز القومى للفنون الخميس الماضى حيث شاهدنا باليه مونت كارلو المودرن..آآآه سوسن قالت لي ان اﻷقباط المصريين صايمين اليومين دول الصيام الكبير قبل عيد القيامه..حلو..أتصل بمدام منال (مصريه قبطيه متزوجة من كندي فرنسي) جارتنا وأوصيها على كشري..أجدع كشري أكلته السنه اللي فاتت كان عندها

أصل للصيدلية..أدخل من باب العاملين أول من يقابلني حاملا فنجان قهوته منه المحاسب (فيتنامى)..أحيه ثم أحيي أيلما (بوسنيه مسلمه) والتي تكن لي معزة خاصة ﻷني ذهبت لمنزلها أعزي زوجها (كرواتي كاثوليك) حين علمت بوفاة والده..وجلست وسط أصدقائهم من صرب وكروات وبوسنين..ربما يقتلون بعضهم البعض هناك أما هنا فهم أصدقاء..كاللبنانيين لى منهم أصدقاء موارنه وشيعه

..حاجة تجن..

وجدت مادلين (آسيوةه أمها تايلاندةه وأبوها كمبودي) وهي مساعدتي اليوم..في الساعة العاشرة ستنضم لنا مساعدة أخرى أنجي (أيرلنديه) وتحاول الكلام معي بالعربية فقد عاشت فتره مع صديق مصري ...أرجو أن تتذكر وتحضر لي معها فنجان قهوة أكسبرسو دوبل من المقهى الموجود بالمول ويديره شقيقان (أيطاليان)..أخفهم دما اﻷصغر والذي ينطلق بالغناء اﻷوبرالي وهو يقدم القهوة والسندوتشات للزبائن

أراجع مفكرتى ﻷتأكد أين سأعمل باقي اﻷسبوع..غدا اﻷربعاء يوم طويل ١٢ ساعة عمل فى صيدلية ملك منى (كرديه سورية) متزوجة من أسباني تعرفت عليه في المغرب

وتقع فى نفس المبنى الطبي الموجودة به عيادة د.بشرى (مصرية) الممارس العام وطبيبه العيله بتاعتنا..أسكندرانيه دمها شربات..تضع غطاء للرأس منذ أن من الله عليها بالحج..وأيضا د.يانج (صيني) أخصائي اﻷطفال الذي أصطحب أبني له كلما ضربته نزلة برد أو إلتهاب أذن..وكريستينا (ايطالية) أخصائية العلاج الطبيعي المشرفة على علاج زوجتي من آلام الضهر...

والخميس سأعمل فى صيدلية ملحقة بمركز لعلاج الإدمان يشرف عليه د.يوري (روسى) المثقف الذي أسعد بالحوار معه عن الفلسفة الوجودية والشعر الروسي

ألقي نظرة سريعة على الملاحظات التي تركتها لي أنيتا (بولنديه) الصيدلانية التي عملت أمس..فأجد وصفة طبية لجيري سلاك (يهودي إسرائيلي من أصل بولندي) فأقول لنفسى سيأتي فى وقت الغداء فهو يعمل مديرا لفرع بنك في نفس المول

وطبعا سيسألني إن كنت شاهدت اﻷخبار

وطبعا سأقول له نعم

وطبعا سنختلف مين اللي غلطان

ويننهي حوارنا به وهو يقول لي

إرهابي تيروريست

فأرد عليه

فاشيست

فيما بين الجد والهزل وسط دهشة باقي الزبائن من كل الجنسيات والملل واﻷديان..

.عد كده كام جنسيه ومله ودين تعاملت معهم قبل أن أبدء الصباح

كيف يعيش هذا الكم من البشر سويا

فى توافق وهرمونية؟

.الاجابة بسيطه نعيش سويا كأفراد..وليس كطوائف ولا جماعات عرقيه أو دينية

.هناك أحترام كامل لكل فرد كما هو..أحترام كامل تحميه القوانين لمعتقدات كل فرد أيا كانت مادامت لاتعتدي على حريات اﻵخرين

.حريه كاملة فى ممارسه شعائرك الدينية داخل مكان عبادتك

أوتاوا بها عدة مساجد المسجد الجامع في منطقه سكوت..وهناك عده حسينيات للشيعه ذهبت مرات لحضور مجالس التعزية فيها..كنيستان قبطيتان مصريتان..كنائس للروم اﻷرثوذكس..الموارنه..البروتستانت بكل مذاهبهم..كنائس كاثوليكية ﻷهل أوتاوا من أمريكا اللاتينيه تقدم القداس باﻷسبانية واللاتينية... كنيسة لشهود يهوه على بعد خمس دقائق من منزلي... بجوارها مجمع ماسوني..على بعد خمس دقائق أخرى معبد للبهائيين..خارج أوتاوا وسط الغابات معبد هندوسي جميل وبه خلوة للراغبين فى التأمل ذهبت إليه مع صديقي مادو (هندي هندوسي) ..لليهود سيناجوج فى قلب المدينه وأخر غربها..

.هذا ما أعرفه وأنا متأكد أن هناك معابد وأماكن عبادة لطوائف وديانات أخرى لا أعرفها..

هنا أنت حر تعبد ماتشاء كيفما تشاء..هذا هو فضائك الخاص..حريتك الشخصية تتضمن أيضا أن تدعو لدينك مادمت لا تجرح معتقدات اﻷخرين

وأيضا ألا تعبد أي شيء..وأن تدعو للالحاد أيضا..

وكل واحد عقله ف راسه يعرف خلاصه..

أما الفضاء العام فتحكمه مصلحة المجتمع..ويظلل الجميع قانون واضح عادل يطبق على الكل..

قانون من صنعنا نحن البشر وقابل للتعديل والمناقشه والاعتراض

.كندا تعيش فى ديموقراطية برلمانية مشتقة مباشرة من الديموقراطية الإنجليزية أعرق الديموقراطيات..وتتفوق عليها فى الفصل التام بين الكنيسة والدولة..أو الدين كأختيار شخصي..والمجتمع كفضاء لتفاعل اﻷفراد وتعاملهم مع بعضهم البعض..

بدون لف ولادوران تلك هى الدولة الحديثة..علمانية..ليست دينيه..تعامل مواطنيها كأفراد..لا كرعايا..ولاتجمع من الطوائف والملل والنحل

.هل قلت أنى أحب هذه البلد وأهلها ونظامها ودستورها والحرية والمساواة والفرص التي تكفلها لي وﻷسرتي..؟؟

لاأظن

.فلأقولها إذا




النص الكامل للمقال

التوجه المدني لدولة الرسول-1

9.3.08 |


بقلم د. إياد حرفوش

حق في الحياة .. و حياة في الحق

نقبل أن يختلف معنا من يشاء بشأن العلمانية و الدولة المدنية و الليبرالية و غيرها ، فهي مباديء و أفكار إنسانية تقبل الاختلاف و التغيير و التطوير ، لكنَّا يحزننا لا ريب أن تهاجم هذه المباديء الجليلة من منطلق ديني إسلامي ، فكم من فقيه و كم من "داعية فضائي" من رواد الفضائيات لا الفضاء، يتهم من يختلف عنه بالعلمانية و الليبرالية و كأنها تهم تخل بالشرف؟ و كم منهم يستخدم لفظ العلمانية كمرادف للكفر و الإلحاد؟ عن جهل حينا و عن غرض في أكثر الأحيان ، و لبيان كذبهم و تهافت بيانهم، ندعوكم اليوم لرحلة قصيرة مع سيد الخلق ، محمد في هجرته و بناء دولته في المدينة المنورة ، لنرى معاً معالم الدولة المدنية العلمانية في دولة الإسلام الأولى بالمدينة المنورة ، و لسنة النبي و مرجعيته أهدى للحق ممن يفترون عليه الكذب لأغراض في صدورهم



فلو اتفقنا أن الدولة العلمانية كما عرفتها الموسوعة البريطانية هي الدولة الغير منحازة مع أو ضد دين من أديان مواطنيها ضد آخر، و لا تفرق بين مواطنيها على أساس ديني أو عرقي أو جنسي أو طائفي، و تصنع فيها القرارات من خلال مؤسسات المجتمع المدني المتخصصة بعيدا عن سلطة الكهنوت، ثم اتفقنا بعدها أن نقارن هذا التعريف بواقع دولة المدينة المنورة في إبان حكم الرسول و الراشدين من بعده، لظهر لنا تهافت دعاوى الحكم "بالاسلام" التي يدعيها الاخوان و من شابههم، و في مقالنا اليوم و ما يتبعه من مقالات، نتطرق للمناحي التالية من البنيان النبوي لدولة الرسول:

- التنوع و ثراء التعددية في المجتمع

- الأساس العلماني للمواطنة

- مبدأ تكافؤ الفرص

- الحقوق المدنية

- حرية التعبير

- حرية العقيدة

- المباديء الديمقراطية و آليات تداول السلطة

- الآليات العلمانية لتوزيع الثروة

- العلاقات الخارجية و مرحلة الامبراطورية

- الشخصيات الاعتبارية المتعددة للرسول صلى الله عليه وسلمصلى الله عليه وسلم

- القانون المدني و الجنائي و رؤية جديدة للحدود




أبطال رحلة الهجرة : مشرك و إمرأة و عبد



غار ثور بضواحي مكة المكرمة

انشغلنا كعادتنا التراثية بجانب "الحدوتة" في هجرة النبي ، و خاصة ما كان منها إعجازياً كأمر الحمائم و العناكب و فرس "سراقة" الذي غاصت قوائمه ، و التهينا عن النظر في أمور أعمق و أجل في عبرتها، و هي كذلك أهدى لنا في حياتنا؟ و لعل أول ما يلفت النظر في رحلة الهجرة برأينا ، تلك الوقفة الخداعية التي قام بها الرسول بغار "ثور" ، ثلاثة أيام كاملة ، حتى يوغل فرسان قريش في الطريق الى المدينة المنورة، فيكون مطاردوه أمامه ، يجدون السير ظناً بأنه يسبقهم ، أما ثاني هذه الأمور فهو رمزية التنوع المثري في الشخوص المحورية لرحلة الهجرة، فقد كان أبطال الهجرة أربعة أشخاص، بخلاف النبي و صاحبه ، فأما الأول فكان "عبد الله بن أبي بكر" ، و كانت مهمته نقل أخبار الموقف السياسي للرسول في مقره المؤقت، و أما الثانية فكانت أخته "أسماء بنت أبي بكر"، تحمل لرسول الله و أبيها الشراب و الطعام، فاما الثالث فهو "عامر بن فهيرة" ، المولى الأسود الذي كان عبدا لأبي بكر فأعتقه ، و كان يرعى الضأن حول الغار ليطمس آثار الأقدام، و قيل أنه هو من أتى بالراحلتين للمهاجرين في اليوم الثالث، و اما الرابع فدليل رحلة الهجرة ، "عبد الله بن أريقط" ، و كان مشركا على دين قريش، لكن الرسول و صاحبه إئتمناه على سر الهجرة ثقة في كفاءته و ضميره المهني ، و واعداه عند الغار في اليوم الثالث، و قيل أيضا أن الابل كانت معه أمانة و ليست مع "عامر"، و هذا وثني مغاير في الدين و به تتم دائرة التنوع المثري، ذكر قرشي مسلم ، فتاة قرشية مسلمة ، ذكر أسود مسلم ، و ذكر قرشي وثني ، فأي مجال بعد ذلك لتبرير تمييز المسلم على غير المسلم في المناصب أو مواقع القيادة؟ أو لتمييز رجل على إمرأة؟ او ابيض على اسود؟ أليست هذه العدالة التي لا تفرق على أساس الدين أو العرق أو الجنس هي عماد مؤسس من أعمدة المدنية و العلمانية التي يدعون مخالفتها للإسلام؟

الأساس العلماني للمواطنة في دولة المدينة

قام صلوات الله عليه في المدينة بتدعيم ركائز المجتمع المدني من خلال تعميق مبدأ المواطنة، و ذلك في ثلاث خطوات مرحلية ، أولها كان التأكيد على نبذ العنف بين الأوس و الخزرج ، لكونهم إخوان في ظل الدولة الناشئة ، و لأن نبذ العصبية القبلية يعد من مباديء الإسلام الجوهرية، و ثانيها دمج و تضمين للمهاجرين الجدد في مجتمع المدينة المنورة من خلال فكرة المؤاخاة بين المهاجرين و الأنصار، حتى لا يتحول المهاجرون بمرور الوقت إلى كانتون منعزل عن الأنصار ، فشجعهم الرسول على المساكنة و المصاهرة فيما بينهم ، بهدف زيادة تجانس المجتمع المدني، ثم كانت بعد ذلك خطوته الثالثة ، و هي معاهدة يهود المدينة ، و التي بمقتضاها صاروا جزءا من نسيج هذا المجتمع ، فلم يدفعوا الجزية و لم يضطروا إلى أضيق الطريق كما يدعي البعض ، و لنا أن نعلم ان الجزية لم تفرض أساسا إلا في مرحلة الامبراطورية كرمز للتفوق و السيادة على الامم المفتوحة و كمصدر تمويلي للجيش الامبراطوري ، و هو أمر معهود تاريخيا و كان آخر حدوثه في الحرب العالمية الثانية، حين كانت حكومة "فيشي" تدفع الجزية للجيش الألماني المحتل في باريس.


توقيع اتفاق الاستسلام الفرنسي الذي بمقتضاه تحملت فرنسا نفقات جيش الاحتلال الألماني في شكل جزية شهرية

و كثيرة هي المواقف التي تشهد بتعادل حقوق المواطنة في دولة الرسول ، مثل التأكيد على مساواة المرأة بالرجل في الحقوق و الواجبات، و من مثل ذلك قوله "إنما النساء شقائق الرجال، ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم" (رواه أحمد)، فتحقيق المساواة في مجتمع رعوي يعتمد على عضلات الذكور في الاستيلاء على المرعى و حمايته يشير إلى عمق منطق المواطنة و حقوق الانسان في دولة الرسول ، حتى لو اقتضت الضرورات الاجتماعية مرحليا التفريق في نسب الميراث أو اقتضت الحالة الذهنية للمرأة وقتها ،اعتبار شهادتها على النصف من شهادة الرجل بصفة مرحلية أيضاً

و كما عدلت دولة الرسول بين مواطنيها من الجنسين ، كذلك عدلت بين الناس بدون تمييز عرقي أو ديني ، فنراه يمنح شرف الانتساب الروحي لآل بيته لمن كان غريبا مهاجرا عندما قال في "سلمان الفارسي" تكريما و تقديرا "سلمان منا آل البيت" (موقوف عن علي بن أبي طالب) ، و أخيراً ، لكل دعاة العنصرية الدينية، نذكرهم يوم وقف النبي احتراما للموت عند مرور جنازة يهودي ، فقال له بعض جلسائه " يا رسول الله إنها جنازة يهودي" فيرد النبي بحدة ظاهرة من تكرار العبارة "سبحان الله ، أوليست نفساً؟ أوليست نفساً؟ أوليست نفساً؟" (رواه مسلم). و لفظ الذمي الذي يستخدم اليوم انتقاصا من مواطنة شركاء الوطن من المسيحيين ، كان بالأساس لفظ تأكيد على حقوقهم في كامل المواطنة بجعل حقوقهم في ذمة الله و رسولهم ، حتى لا تغري الكثرة العددية المسلمين بالتحزب العنصري المقيت ضدهم.

المناصب لأهل الخبرة لا لأهل التقوى

كانت عبقرية "خالد بن الوليد" العسكرية معروفة للمسلمين من قبل إسلامه ، فهو صاحب الالتفافة المنتصرة عليهم في "أحد" و لهذا وضعه الرسول من ضمن قيادات غزوة "مؤتة" بعد إسلامه بشهرين إثنين، تحت قيادة "زيد بن حارثة" و الذي استشهد بهذه الغزوة ، و عاد "خالد" للمدينة بالجيش سالما لما رأى استحالة تحقيق نصر عسكري للتفوق الكبير لجيش الغساسنة و الروم ، و بهذا الانسحاب الاستراتيجي أكد "خالد" عبقريته ، فصار القائد العسكري الأثير للرسول ، و حارب تحت قيادته على عهد الرسول و "أبي بكر" كثير من كبار الصحابة، كذلك نعرف من كتب السيرة أن "أبي عبيدة بن الجراح" و هو من مهاجري الحبشة ، أي من أوائل المسلمين، قد صلى خلف "عمرو بن العاص" في غزوة "ذات السلاسل" لأن القيادة كانت لعمرو ، و قد صدق الرسول على هذا بالموافقة ، ليتجلى لنا موقف الإسلام من تنصيب القيادات بفكر علماني يهدف لتحقيق المصلحة بتولية الأكفأ و الأقدر و ليس الأتقى.


مقام خالد بن الوليد في مسجده بحمص (دفنه بالقبر ليس محققا من الناحية التاريخية)

لقد كان رسول الله في هذه المواقف ملتزما بالتعليم الرباني في القرآن الكريم "قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ" (القصص:23) ، هكذا يحدد الله لنا معايير الكفاءة للمناصب و الوظائف ، فهي القوة على أداء العمل ، و هو ما نفهمه في عصرنا بأنه الكفاءة المهنية و الاحتراف و المؤهلات الدراسية و ما اليها، ثم الأمانة بمعنى الشرف المهني و الالتزام الأخلاقي في العمل ، فالفتاة هنا من واقع السورة لم تر من نبي الله "موسى" ما يدل على عقيدته ، و لكنها رأت ما يدل على قدرته و أمانته ، فبأي منطق يقول "دعاة الفضاء" في زمن الصغار الذي نعيشه "أن المسلم أولى بفرص العمل من المسيحي"؟ ثم يضيف بعضهم للإيحاء بالعدالة "لو تساووا في المؤهلات" !! فعلى أي أساس يتحدثون و هذا القرآن و هذه سنن الأفعال تثبت تهافت دعواهم؟ و هذا الذي يدعي عدالة عوراء عرجاء مضيفا شرط التساوي في المؤهلات، يتجاهل حقيقة أن تساوي شخصين في المؤهلات العلمية و الخبرة العملية و الملكات الشخصية هو فرض جدلي مستحيل؟ و أن الأولى حتى في حال تحقق المستحيل بحدوثه، أن تكون الحاجة للعمل هي المعيار و ليس الدين؟ و كذلك يظهر بطلان دعوى من يقول منهم بعدم جواز قيادة غير المسلم للمسلم في المجتمع المدني قياسا.

الحقوق المدنية

يوجز "جون لوك" ، أحد القيادات البارزة لعصر النهضة بأوروبا ، الحقوق المدنية الأساسية للأفراد في ثلاث حقوق، هي حق الحياة و حق الحرية الاجتماعية و حق الملكية، فأما الأول فقد كان من أهم الانجازات التي أدى اليها توحد الجزيرة العربية في دولة مركزية ذات سطوة تحت قيادة الرسول و الراشدين من بعده، حيث جفت أغادير الدم التي كانت تفيض عليها الصراعات القبلية المبنية على النعرات و الصراعات المادية، و أكد القرآن على مبدأ العقاب للقاتل و المجرم عموما بهدف الردع، و ذلك كقوله تعالى "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون" (البقرة:179) ، فالقصاص لغة هو تحمل التبعات ، فيتحمل الجاني تبعة جريمته ليكون عبرة لغيره، و هذا هو المبدأ العقابي الثابت بينما تعمل الحدود أو تعطل أو تستبدل بأحكام تعزيرية وفقا لحال المجتمع، و لنا في الحدود حديث يطول حين يأتي اوانه، و القصاص بالعقاب ليس حق الله ، بل حق المجتمع، لتحقيق السلام في ربوعه ، أما الله فيحاسب أو يغفر في الدار الاخرة، و جريمة القتل عند الله كبيرة جسيمة في قوله تعالى " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" (المائدة:32)


جون لوك

أما حق الملكية فقد كفله الإسلام بلا حدود للمسلم و لغير المسلم، و ألزم كليهما بضرائب اجتماعية توجه للتكافل الاجتماعي في شكل الزكاة و الخراج ، و هذا أمر لا يكاد يقوم بشأنه خلاف، و سنتحدث عن آليات توزيع الثروة في حينها بإذن الله، اما الحرية الاجتماعية فكفلتها دولة الرسول من خلال حرية الزواج و الطلاق ، و حرية السفر و الانتقال، و غيرها، و لتعدد ضروب الحريات، نكتفي هنا بالرد على شبهتين أساسيتين هما حد الزنا، و مدى تعارضه مع حرية السلوك الشخصي للفرد ، و موضوع إباحة الرق في الإسلام الذي كثر حوله لغط عقيم مؤخراً، فاما عقاب الزاني و الزانية سواء من المحصنين أو غيرهم، فلا نرى فيه تعارضاَ مع مبدأ حرية السلوك ، فهو مبدأ عقابي لحماية المجتمع و الذوق العام من الممارسة العلنية للجنس بالاماكن العامة! نعم ، ففي أي حالة غير حالة الممارسة العلنية بالحدائق ، يستحيل وجود أربعة شهود يشهدون على رؤيتهم العضو الذكري مولجا في العضو الأنثوي ، و هو شرط إقامة الحد، بقوله تعالى "و اللاتي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ" (النساء:15)، لهذا كانت الحدود التي طبقت بعهد الرسول و الراشدين قاصرة على حالات الاعتراف، فالأمر متعلق بالفعل الفاضح في الطريق العام ، و هو ما يخرج من باب حرية الفرد لباب ايذاء المجتمع من تعريض الاحداث و الاطفال لرؤية عملية جنسية كاملة الاركان قبل السن الذي يجب أن يتعرضوا فيه لهذا، و غيره من ضروب الاضرار بالمجتمع ، و أما الرق فكان موجودا و لا ريب في دولة الرسول، حتى مع شروط تجفيف المنابع و زيادة سبل العتق التي نص عليها القرآن، و ظل الرق موجودا بعالمنا حتى اكتشفت طاقة البخار كبديل أكثر فاعلية لعضلات العبيد، و هنا تحول الرق من ضرورة انتاجية إلى مجرد شكل من أشكال الاستغلال التي يمكن حذفها من قاموس الانسانية، و ليس في الدين ما يمنع هذا بل فيه ما يشجع عليه.


الحفاظ على الآداب العامة و تكريم الإنسان باختلافه عن علنية الجنس الحيواني كانا منطق عقوبة الزنا العلني

فهكذا يا أصدقائي بنيت دولة الاسلام في المدينة منذ لحظة الهجرة و حتى نهاية دولة الراشدين على دعائم علمانية و مدنية تعد متقدمة بالمقارنة بمحيطها الاجتماعي و الزمني، و قد رأينا منها اليوم جوانبا أربعة هي بلغة زماننا قبول التعددية و التنوع Diversity Tolerance و مبدأ المواطنة Citizenship الغير مبنية على الدين أو العرق أو الجنس، ثم مبدأ تكافؤ الفرص Equity of Opportunity داخل المجتمع المدني و أخيرا مفهوم الحقوق المدنية Civil Rights في دولة الرسول ، و إذا أحيانا الله للعدد القادم ، نتحدث عن حرية العقيدة و ما يتبعها من حرية التعبير في دولة الرسول بالمدينة المنورة في القرن السابع الميلادي ، و التي يريد لنا ضعاف العقول و سفهاء الأحلام منا أن نكون أقل منها تقدمية و علمانية في القرن الحادي و العشرين.





النص الكامل للمقال

أحلام مصر الجديدة

8.3.08 |


بقلم تحوتمس

23 قرن من الاحتلال الأجنبي، استيقظنا في أحد الأيام منذ حوالي نصف قرن لنكتشف أننا قد اصبحنا مسئولين عن أنفسنا! 2300 عاما قضتها مصر مستعمرة، للفرس ثم اليونان والرومان والعرب والأتراك والانجليز.

لا أعلم لماذا يذكرني الاستعمار بالمرض. عندما يقع الجسم فريسة للمرض، تحاول الأجسام الطفيلية تسخير هذا الجسم لخدمتها. تمتص دماءه وتتعيش على عافيته. وكذلك الاستعمار، يجمع الولاة والجباة الضرائب والمكوس القاسية، ويئن الفلاح المسكين تحت وطأة القهر والذل حتى يضطر لبيع بعض من أبنائه لسداد الضريبة أو الجزية.

مئات السنوات ضاعت من عمر هذه الأمة وهي محتلة، تدهورت فيها عافيتها الحضارية بل والسكانية من القمة وإلى الحضيض. وبعد أن شهدت مصر مولد الحضارة واكتشاف الزراعة والري واللغة والتقويم والرياضيات والهندسة والفلك والطب والكيمياء والدين والآداب والفنون، أصيب الجسم بالمرض وتوقف عن الإبداع. على مدى ألفي عام هي عمر الاحتلال لم نسمع عن أي إنجاز مصري. وتشير التقديرات أن عدد السكان بمصر كان حوالي 8 مليون نسمة في عصر البطالمة، قبل الميلاد بعدة قرون. وتدهور عدد السكان حتى وصل إلى حوالي 2 ونصف مليون نسمة أبان الحملة الفرنسية على مصر بعد ألفي سنة.

فقدنا ثقلنا السكاني، ثم فقدنا الذاكرة مع ضياع اللغة المصرية في القرن الرابع الميلادي عندما حرم الرومان المسيحيون الكتابة الهيروغليفية باعتبارها رموزاً وثنية، فتحولت ذاكرة مصر إلى رموز مشفرة. فقدنا الذاكرة، وفقدنا التواصل مع الأجداد. وجاء الغزو العربي عام 639م ليقضي على الجسر الوحيد الباقي، وهو اللغة القبطية، التي عانت الحصار المنظم إلى أن اندثر استخدامها تقريباً في القرن السابع عشر الميلادي، عدا في بعض الطقوس الكنسية. أي أننا في القرن الرابع الميلادي، بدأنا رحلة تيه (توهان يعني)، من أطول الرحلات التي عرفها الإنسان، استمرت لحوالي ألف وخمسمائة عام.

البحث عن الهوية

بعد أكثر من ألفي عام من الاحتلال والتيه والغيبوية الحضارية، تستعيد مصر استقلالها، وتستيقظ من الغيبوية تدريجياً، على آلام مبرحة وتداعيات مرض طويل، يحتاج لفترة نقاهة غير قصيرة، وتغذية ثقافية مكثفة. وفي وسط هذه التداعيات، نفتح أعيننا وننظرحولنا ونتأمل أنفسنا، وننظر في المرآة، فلا نعرف من نحن. هل نحن مصريون؟ هل المصريون أمة متفردة؟ أم أننا عرب؟ أم مسلمون؟ أم مسيحيون؟ هل ننتمي لشعوب حوض البحر المتوسط، بحر الحضارات القديمة العظيمة؟ أم ننتمي لشعوب حوض النيل الذي هو سر الحضارة والوجود بالنسبة لنا ولأجدادنا وأحفادنا؟ من نحن؟ من أين نأتي؟ وإلى أين نذهب؟

في هذه اللحظات المحورية في حياة أمتنا، نحن في أشد الحاجة لاستلهام رؤية قومية، تساعدنا على التعرف على هويتنا الكامنة، وتحديد هدف قومي، يجسد ما نود أن نصل إليه كأمة، ومعالم الطريق الذي يتعين علينا أن نسلكه حتى نصل لهذا الهدف.


في انتظار حلم عظيم

الحضارة الإنسانية هي نتاج سلسلة من الرؤى والأحلام والمبادرات العظيمة، ومن هنا فالقدرة على الحلم، والقدرة على التخيل، هي أهم ما يميز الإنسان عن سائر المخلوقات الأخرى، التي تعيش الحياة كما تجدها. أما الحضارة الإنسانية، فتتميز بوجود قفزات نوعية غير مفهومة. تبدأ المبادرة بحلم بسيط وعظيم، يولد في خيال أحدنا، يخترق من خلاله الضباب الذي يفرضه الواقع بأبعاده المادية المعروفة، ومحدداته التي تخضع للمنطق الموجود والمستقر، لتحلق وتنفذ عبر أحجبة الزمن المعتمة من خلال ومضة صدق، تستمد وهجها من مخزون أودعه الخالق في ضمير الإنسان في عصر البراءة، فنرى المستقبل من خلال رؤية نافذة وبصيرة ثاقبة، نراه لا كما هو أو كما سوف يكون إن استمرت الأمور على ما هي عليه، بل كما يمكن أن يكون، وكما يجب أن يُصنع.

والأمم العظيمة تصنعها الأحلام العظيمة. في بدايات حكمه القصير في مدته، الطويل في آثاره، أطلق جون فيتزجيرالد كينيدي، حلمه بأن الولايات المتحدة سوف تضع أول إنسان على سطح القمر قبل نهاية عقد الستينيات "... سنفعل ذلك ليس لأنه سهل علينا ... بل لأنه صعب." لقد طرح كينيدي هذا التحدي على أمته، ليصبح ذلك الشعار رمزاً للرغبة في التقدم في كل مجال اقتصادي وصناعي وتقني. وخلال السنوات التالية، ورغم وفاة كينيدي نفسه، فقد عاش حلمه حياً في ضمير الأمة الأمريكية، وجاء من بعده رئيس سار على نفس الدرب (ليندون جونسون)، ثم جاء رئيس ثالث (ريتشارد نيكسون)، ليتحقق في عهده الحلم في خلال أقل من سبع سنوات من إطلاقه. لم يأت الرئيس التالي أو من جاء بعده ليسفه من حلم كينيدي أو يشطبه ليبدأ مشروعه هو القومي حتى يتذكره الناس به. لم يحاول من جاء بعده أن ينسب الحلم لنفسه أو يعيد كتابة التاريخ ليضخم من إنجازاته. وكنتيجة لهذا الإصرار والاتساق في الرؤية والاتفاق على الهدف، استطاعت أمريكا أن تكسب سباق التكنولوجيا، وتتفوق في صناعات الحواسب والاتصالات والروبوتيكس والذكاء الاصطناعي والليزر وبحوث الدواء والهندسة الوراثية والوقود وهندسة المواد الجديدة وغيرها من التقنيات الاستراتيجية التي تطورت مع تكنولوجيا الفضاء، لتنتصر في النهاية في الحرب الباردة، وتصبح سيدة العالم بدون منازع.

ولأن الأمم العظيمة تصنعها الأحلام العظيمة. فالأمم العظيمة هي التي تسمح للحالمين بالحلم، وتتيح الفرصة لأصحاب المبادرة أن يأخذوا المبادرة، ويحققوها على أرض الواقع، ويستفيدوا بصفة شخصية من نجاحها، ما دامت تلك المبادرات سوف تسهم في النهاية في النهوض بالمجتمع وتعبر به نحو المستقبل. أما الأنظمة التي تخاف من الأحلام، وتطارد الحالمين، وتجهض أحلامهم، أو تعاقبهم على مجرد الحلم، في سبيل تكريس الوضع القائم والحفاظ على مصالح النخبة الحاكمة، تحت دعاوى الاستقرار وجرعات الإصلاح التدريجي "المشمومة" والمغشوشة، فهي أمم محكوم عليها بالتدهور والتذيل، ثم الاندثار والفناء. الأنظمة التي تحاصر أصحاب المبادرات، وتنكر عليهم الاستفادة من مبادراتهم، خشية أن يصعدوا فيهددوا النخبة الموجودة، هي أنظمة تطلب العقم وتحرص عليه، وتمارس التعقيم والتقليم، والإخصاء والإقصاء، بدعوى الحفاظ على الاستقرار وحماية السلام الاجتماعي تارة، أو مراعاة مصالح محدودي الدخل تارة أخرى، أو تذويب الفوارق بين الطبقات تارة ثالثة، وغيرها من الشعارات الكاذبة، التي تستخدم لتبرير كراهية النجاح ومحاربة الناجحين واضطهاد الموهوبين، حتى تختنق الأحلام، ويحجم كل صاحب مبادرة عن العمل الخلاق، أو يهاجر هرباً من هذا الجو المسموم، ويترك وطنه لينتمي لمجتمعات أخرى يحقق فيها النجاح ويحصل على التقدير، فتستفيد تلك المجتمعات من هذه الموارد البشرية النادرة، بعد أن اضطُهدت تلك الموارد في أوطانها الأصلية.

ولأن أصحاب الرؤى والمبادرات هم عملة نادرة، ويخضع ظهورهم لنسب إحصائية ضئيلة، فإن فقدان واحد منهم يمثل خسارة فادحة لا تعوض بسهولة، أما موضوع أن "مصر ولادة" وأنها قادرة على إنجاب "سيد سيده"، فهو قول حق يراد به باطل. فمصر ولادة بحق، ولكن إذا كانت طبيعة النظام هي أن يقضي على الموهوبين أولاً بأول، ويبعد أصحاب الفكر، ويطارد أصحاب المبادرات بصورة تلقائية، فكثرة الولادة لن تفيدنا بشيء، سوى أن تتسبب في تفشي البطالة والفقر والجهل، واستشراء السماجة والسخافة، وانهيار الفنون والآداب والعلوم، وتدهور النشاط الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، فضلاً عن تدني الذوق العام وتسمم المناخ المحيط بالحياة اليومية لكل منا.


نهاية الغضب؟

من يصنع هذه الرؤى ومن يقدمها للناس ويحشد الدعم المجتمعي حولها؟ لقد أثبت النظام عجزه عن مجرد البصر "الشوف يعني"، وبالتالي فلا يصح أن نطالبه باستلهام الرؤى، بل نتمنى له نوماً هادئاً يخفف عنه آلام الشيخوخة. هل يمكن أن نعهد بهذه المهمة للنخبة المثقفة؟ النخبة المثقفة موجودة على المقاهي تشد أنفاس العنب الفاخر، وفي المنتديات الفكرية تتحدث عن التقعر الأيديولوجي المتعامد على التماس الدوجماطيقي، وعلى سلالم نقابة الصحفيين، تصرخ "باطل" وتلوح في غضب شديد. نفس الشيء على الإنترنت. منتهى الغضب وآخر جرأة في النقد والله ينور بصراحة. طب وبعدين؟ نستورد "حد" يفكر لنا في رؤية؟

أما لهذا الغضب من نهاية "عشان نشتغل بأه شوية ونبطل نرفزة ونأورة"؟

إن أسباب الغضب مفهومة ومعروفة. والغضب على الأوضاع السيئة شيء مطلوب ولابد منه. ولكن، يجب أن نبدأ في استثمار طاقة الغضب على الأوضاع التي لا تعجبنا، ونحولها لطاقة إيجابية لبناء المستقبل الذي نتمناه. لابد أن نجلس سوياً لنتحدث عن هذه الرؤية الغائبة، في هدوء وصفاء نفسي، بعيداً عن الهتافات الغاضبة.


بناء أمة عظيمة

إن مصر تحتوي على عوامل كامنة تجعلنا نستطيع بناء أمة عظيمة مرة أخرى في سنوات أو عقود قليلة، بشرط أن نعرف أولاً من نحن، وما هي عوامل تميزنا وتفردنا عن غيرنا من الأمم والدول، ونرسم لأنفسنا رؤية مستقبلية تتسق مع تعريفنا لهويتنا وواقعنا والعوامل التي يمكن أن تمثل مزايا تنافسية لنا كدولة، ثم نضع الخطط اللازمة للوصول لتلك الرؤية، ونبدأ في تنفيذها دون إبطاء. وعلى سبيل المثال، موقع مصر في "سرة" العالم يقدم لنا مزايا لا يمكن منافستها. وضع مصر الحضاري والثقافي كمركز إشعاع للفنون وصناعات المحتوى هو ثروة لابد أن نبحث عن مفاتيح تفعيلها وإطلاقها. الثمانون مليون مصري يمثلون طاقة بشرية جبارة إذا أحسنا تعليم وتدريب أبنائنا وأطلقنا العنان لطاقاتهم الخلاقة بعيداً عن مفرخة التعليم التشكيلي الذي يفرز أشباه المتعلمين ويلفظ الموهوبين والمتميزين. تحدثنا الحكومات المتعاقبة عن المصريين وكأنهم قنابل موقوتة ورزايا (جمع رزية) يجب أن نشكر الحكومة على احتمالها. ولكننا نقول لتلك الحكومات، أن هؤلاء المصريين هم ثروة مصر الحقيقية، إذا أحسنا استغلال هذه الثروة. وأتذكر أحد العبارات التي كتبتها على لسان مصر تخاطب بها الوالي: "إن ترغب في الاستفادة من الكنز، أنا أدلك على مكانه. في قلب كل واحد من أبنائي وفي ساعديه وفي رأسه. فإذا قيدت ذراعيه بالسلاسل، وجعلت قلبه حزيناً، ووطأت رأسه بحذائك، فلا تشكون من الفاقة وسوء النهاية".

مصر الجديدة

إن مصر الجديدة التي لابد أن نبحث عنها، تشبه مصر القديمة في الكثير من القيم التي يتعين علينا أن نعيد اكتشافها في أنفسنا. قيم التسامح والتعددية. قيم الخير والحب والجمال والحق والعدل. قيم منظومة "ماعت" التي اتسمت بالتوازن فولدت الحضارة من رحمها. قيمة الفكر وإعلاء العقلانية في كل مجال. قيم التعاطف والتكافل المجتمعي. مصر الجديدة التي يجب أن نسعى لبنائها، دولتها مدنية، تحتضن جميع أبنائها بصرف النظر عن عقيدتهم أو لونهم. تساوي بين الجميع أمام القانون. تضع الكفاءة لا المحسوبية أو اسم العائلة أو "كشف الهيئة الاجتماعية"، في مقدمة معايير اختيار الشخص المناسب. مصر التي نتمناها لابد أن تتخلص من التطرف والتعصب ودعاوى الهوية الدينية التي تهدد وحدة نسيج أمتنا. مصر عرفت الدولة والحضارة والدين قبل ظهور الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية بآلاف السنوات. ورغم التداخل بين الدور السياسي والديني للفرعون في مصر القديمة، إلا أننا رأينا سكان الأقاليم المختلفة يعبدون آلهة محلية أو قومية متعددة دون أن يفرض إقليم على إقليم آخر عبادة إله بعينه. لم يحدث هذا سوى في عصر أخناتون، الذي ربما يكون أول إنسان ينادي بالتوحيد، ولكن عصره لم يدم طويلاً، عادت بعده مصر تحتضن التعددية وتنبذ الأحادية في التفكير.


أحلام مصر الجديدة

نتحدث عن النهوض بالاقتصاد والاستثمار، وعن تطوير التعليم والثقافة، و كل هذا جميل، ولكنني أقول لكم بكل صراحة، بدون حلم عظيم، بل أحلام عظيمة لمصرنا الجديدة، لن نتقدم خطوة إلى الأمام. لابد أن نغير من أنفسنا ومن طبائعنا السوداوية لنتبنى التفاؤل وطرق التفكير الإيجابية. لابد أن نسعى لتغيير نظمنا والقوانين واللوائح العقيمة التي تحكمنا حتى نشجع المبادرة الفردية والجماعية، نكافئ من ينجح، ونساعد من يتعثر حتى يقف على أقدامه مرة أخرى، لابد أن نستفيد من الحالمين والموهوبين المضطهدين قبل فوات الأوان. لابد أن نحول طاقة الغضب إلى قوة دافعة إيجابية لبناء المستقبل الذي نحلم به لمصر،ونتوقف عن تبادل السباب واللعنات، ونخرج من الحلقة المفرغة التي لن تؤدي إلا للمزيد من الإحباط والاكتئاب. بدون بناء دولة مدنية تساوي بين جميع المصريين قد نرى حرباً أهلية تفتت أمتنا. بدون تداول المقاعد في كل موقع، والحرص على تشجيع الحراك الاجتماعي في كل مجال، سوف نتكلس ونتحجر، وندخل التاريخ كأول أمة معاصرة، يتم تصنيفها ضمن الآثار الغابرة.




النص الكامل للمقال

بلاها علمانية؛ تاخد سوسو؟

7.3.08 |


بقلم ايجي اناتوميست


"كانت بغداد تقع في مركز العالم الإسلامي. وقد أصبحت في نهاية الألفية الأولى عاصمة تعليمية وعلمية وثقافية. وهناك كان المسلمون يعملون إلى جانب المسيحيين واليهود على دراسة أعظم مؤلفات الصين ومصر واليونان وروما القديمة. وعندما كانت الكنيسة تحظر ممارسة الطب في الأراضي المسيحية، كان العرب يستخدمون البنج ويجرون عمليات معقدة. وطور المسلمون نظاما عدديا مازال يستخدم حتى اليوم وابتكروا البندول والجبر وعلم المثلثات. وبعد أن تعلموا من الصينيين كيف يصنعون الورق، احتفظوا بسجلات إدارية، وألفوا الكتب في مجال واسع من الموضوعات، وصمموا أول نظام مصرفي في العالم. وفي هذا العصر الذهبي، كان الإسلام حديثا وتقدميا، وتواقا إلى تقبل شتى أنواع العلوم"

قائل هذه الكلمات أو كاتبتها هي مادلين أولبرايت (فاكرينها؟). وزيرة خارجية أمريكا السابقة. في كتابها الشهير "الجبروت والجبار" المنشور في لبنان ومصر عام 2006 (الدار العربية للعلوم ومكتبة مدبولي) ص ص 114-115

متهيألي مفيش اعتراف أو دليل أفضل ولا أحلى من كده. الست مادلين أولبرايت المسيحية الصهيونية الأمريكانية بتقول بعضمة لسانها إن الإسلام والعرب كانوا منورين الدنيا لما كان الغرب ضلمة وهباب وتخلف.

السؤال التاريخي بقى: ماذا حدث؟

كيف انقلب الحال فصرنا في السافلين وصاروا هم فوقنا جاثمين!

أقول لحضراتكم.

اللي حصل أن الإسلام دين تقدمي عظيم. يعني ايه دين تقدمي؟ يعني دين بيدعو إلى التقدم. إلى التنوير. إلى العقل. إلى العلم. إلى العمل. إلى تعمير الأرض وتنميتها. إلى ترقية حياة الإنسان. ليس دين ينظر للماضي بل للأمام. ليس دين اعتزال وهامش بل دين مشاركة ومركز. ليس دين خمول أو كسل. ليس دين آخرة وخلاص. ليس دين طقوس ورموز. هو دين دنيا وآخرة. الاتنين في الواقع حاجة واحدة في الإسلام. الدنيا والآخرة مكملين لبعض. حاجة واحدة. هو فيه آخرة من غير أولى؟ طب تبقى آخرت إيه بالظبط؟

حلو الكلام؟ طيب. نقول كمان.

اللي حصل إن الدنيا في الإسلام هي دار عمل وبناء وتعمير وتعلم وتقدم وتنمية. كل هذه المصطلحات ربنا لخصها في كلمة واحدة (عبادة). ما خلق الله الإنس والجن إلا ليعبدونه. العبادة – بالاجماع – هي كل ما سبق. كل ما من شأنه تنمية استخدام موارد الأرض والاستمتاع بنعم الله من حولنا ومحاولة تحقيق أفضل حياة للمجتمعات البشرية فوق هذه الأرض. بهذا المفهوم يصبح الإسلام عالميا بحق: فأي إنسان يعمل بجد واجتهاد أعمالا صالحة مفيدة تفيد البشر والدنيا، فهو عابد لله وهو عبد من عباد الله الصالحين.

عظيم جدا. فين المشكلة؟

أقول لحضرتك

ظل المسلمون يفهمون الدين – والدنيا - بهذه الطريقة قرونا. يذهبون شرقا وغربا فيستفيدون من الحضارات الأقدم والثقافات الأعرق. يترجمون ويقرأون ويفهمون ويخلقون ويبدعون. لم يقل لهم أحد إن كل بدعة ضلالة! على العكس. كانت كل بدعة (من الابداع) حاجة حلوة جميلة.

نما الإسلام وترعرعت دولته وازدهرت وسادت. بالعلم. والقراءة. والمساواة بين الجميع.
لم تقم دولة الإسلام على الصلاة والصوم والحج. مكانش حد غلب. مكانش الرسول دماغه اتفتحت في غزوة أحد مع إنه رسول ونبي لكن الرسالة الإلهية هي: قوانين الكون تسري حتى على الرسول صلى الله عليه وسلم شخصيا. التقدم مش بالدعا والصلاة. ادعي وصلي زي ما انت عايز. لكن ربنا مش هيقبل منك إلا لو احترمته. أيوه. احترمته. قولتلي ازاي أحترم ربنا؟ أقولك أنا.

تحترم اللي خلقك بإنك تتبع قوانينه. يعني تعرف إن ربك خلق الكون وخلق الأرض بقوانين ثابتة. فيزياء وكيمياء. اللي يفهمها ويتفوق فيها يبقى احترم قدرة الله وعظمته. يقوم ربنا يستجيب له. ربك خلق البشر بقوانين ثابتة. علم نفس. طب. اقتصاد. اجتماع. مفيش حاجة اسمها اقتصاد إسلامي واقتصاد مجوسي. فيه قوانين تمشي على الكل في أي مكان وزمان. مفيش طب إسلامي وطب يهودي. فيه طب. بتاع الخالق. إنما إنك تستهبل وتقضيها عياط وصويت عامللي بتدعي وبتتقرب لربنا وانت محتقر قوانينه وقدرته اللي فرجك عليها في خلق الكون ده كله. تبقى تستاهل اللي هيحصلك يا حلو.

المسلمين في يوم من الأيام مشيوا ورا قوانين الكون زي ما هي. ترجموا كل اللي لقوه ودرسوه وفهموه من غير عقد ولا تلاكيك ولا ناس تقولك الحق دول بيترجموا كتب الكفره. من غير مصادرات ولا دياولو. المسلمين مشيوا ورا العلم. كله علم يا محترم: أحياء، هندسة، أدب، شعر، سياسة، كيميا، فن، اجتماع. سابوهم من التفتيش في القلب والضمير. سابوهم من التخلف اللي كانت أوروبا فيه وقتها. ركزوا على الشغل والعلم والتقدم. مكانش شاغلهم لباس المرأة وحديث الذبابة.

المسلمون كانت دولتهم علمانية. العلمانية هي بمنتهى البساطة اتباع قوانين الكون في كل المجالات. الطبيعية والاجتماعية والإنسانية. العلمانية هي انك متخافش من الآخر وثقافته. تنفتح عليه. هي أن يحكمك واحد زيك انت تختاره أو تفوضه مش واحد يقولك أنا هحكمك بتفويض من ربنا. ربنا مفوضش حد في الحكم. ولا فوض الرسول عليه الصلاة والسلام ذات نفسه. آه والله. مسمعتش "فلست عليهم بمسيطر"؟. مقريتش "أفأنت تكره الناس أن يكونوا مسلمين"؟. محدش قالك على "لكم دينكم ولي دين"؟

مش لازم كلمة علمانية تبقى موجودة. دي مجرد كلمة بتوصف حالة. بتوصف طريقة في تسيير شؤون البشر.

الرسول – عليه الصلاة والسلام – أدار الدولة بالعلم. استشار أهل الخبرة والمفهومية. مكانش بيسأل أكتر واحد حافظ القرآن. كان بيسأل أكتر واحد فاهم في الموضوع. حتى لو كان مش من نفس العرق. فاكرين سلمان الفارسي؟ شفت؟ فارسي. مش عربي. ولا فرقت مع المصطفى. المهم إن الراجل فاهم مش حافظ!

كويس. حصل ايه بقى؟

ولا حاجة. زي ما بيحصل مع البشر عبر التاريخ. أمال هو ليه ربنا بعت رسل وأنبيا كتير؟ ماهو عشان البشر مش بيتعلموا يا محترم. عشان مصرين يفرضوا نفسهم على الناس التانية. انت معانا ولا مع الناس التانيين؟ لو قلت معاكم، هيقولولك: إحنا الناس التانيين!

ابتدا التخلف يضرب أطنابه في صلب الدولة الإسلامية. في القرن الحادي عشر ميلادي والثاني عشر. ابتدت أفكار زي أفكار الإخوة الإخوان وغيرهم تطلع. يقولك ايه ده يا عم. علم ايه وقرف إيه وتقدم إيه. فين النوافل! قاله يا عم ده الرسول نفسه مكانش بيفتش ورا حد. ربك هو اللي خلق البشر وهو أدرى بهم وبقلوبهم. قاله لا يا سيدنا. يعني نسيب الدنيا تبوظ. قاله يا عم تبوظ إيه ماهي زي الفل. إنت اللي مش لاقي حاجة تعملها وعايز تتحكم في الخلق. قاله إلا الصلاة. ثم تطورت لتصبح إلا الصوم. ثم إلا الحج. ثم إلا النوافل. ثم إلا الحجاب. وإلا النقاب وإلا السلام بالإيد وإلا وإلا وإلا. والقائمة بلا نهاية.

ابتدا التفكير الحر يتهاجم. ابن رشد اتنفى. الغزالي شعشع ولعلع وهد الفلسفة الإسلامية العظيمة على دماغ اللي عملوها. التدهور بقى بيزيد في كل مجال. أصل البداية دايما في العقل. اضرب العقل تلاقي البنيان المادي ينهار على طول. يوم والتاني وسنة والتانية وقرن والتاني وصلنا لحالة شبه اللي احنا فيها دلوقتي. راحت الأندلس. ليه راحت؟ عشان بقينا متخلفين عسكريا وعلميا. مين بقى متقدم عنا علميا؟ الغرب. الله. الغرب بتاع دلوقتي؟ أيوه يا دكتور، هوه بعينه. الله، عشان كده بنقول عليه كافر؟ (ابتسامة بريئة)!

أسباب بداية الانهيار الإسلامي كتيرة ومتعددة. يعني ما بين الحروب الصليبية والغزو المغولي لأسباب تانية اجتماعية. الخلاصة إن كل الأسباب أدت في الآخر إن المسلمين بطلوا علمانية وقلبوها دولة دينية قامت انهارت على دماغهم فورا.

الغرب الديني بقى قلبها علمانية. تقدم بسرعة الصاروخ. مشي حاله. راجت تجارته. عنده بلاوي أخلاقية وغيرها متلتلة أكيد مفيش كلام. بس مش أكتر من بلاوينا وخيبتنا التقيلة. بلاوينا المستخبية والباينة. كفاية الذل. كفاية الوضاعة. كفاية الخوف. كفاية الدونية. كفاية اللي احنا فيه. محدش يقوللي الغرب هينهار لوحده ولا دول عالم كفرة ولا مش عارف مين. هو مفيش دم؟!

يا عالم. الإسلام ترك علمانيته التي ميزته عن باقي الأديان فخاب المسلمون خيبة من قبلهم.

يا عالم. المشكلة مش في إسم العلمانية ولا ريحتها. المشكلة في المبدأ. سميها أي إسم. سميها المدنية. الإسلامية. العقلانية. القانونية. الدستورية. سميها عفت. إن شالله تسمهيا سوسو! المهم إنك يا تعمل دولة حديثة بتقوم على أساس المساواة بين المواطنين وبتستند إلى القيم الدينية السامية والتقاليد الثقافية الإسلامية لكن في إطار قانوني يساوي بين حقوق جميع المواطنين مهما كانت مكنونات قلوبهم، ومفيهاش حاجة اسمها مسلم ومسيحي وبهائي وحسامي وعصامي فيها مواطن وبس، وتكون بتتبع قواعد وأصول العلوم الحديثة في كل مجال، ولا سلطان عليها إلا سلطان العقل والمنطق والمصلحة، يا تعمل ده فورا يا إما قدامك كمان خمسمية ستمية سنة تخلف وضرب وإهانة وبهدلة وذل واحتلال.

يا نبني مصر الجديدة دلوقتي يا نقرا على إسم مصر من دلوقتي الفاتحة




النص الكامل للمقال

العمل قيمة انسانية هامة

6.3.08 |


بقلم على باب الله


(أنا و من بعدي الطوفان)

فرنسا

القرن الثامن عشر

كان الملك لويس الخامس عشر 1710 - 1774متربعاً علي العرش , و كان يُعتبر – حتي في عصره – ملكاً كسولاً تافهاً و مستهتراً

ألح عليه مستشاريه كثيراً لكي يبدأ العمل في طريق الإصلاح و ينهض بفرنسا من دوامة الفقر و الجهل التي كانت تعيش فيها الغالبية العظمي من الفرنسيين

و لكنه إعتاد أن يقول للذين ينذرونه بوقوع الكارثة : " اجعلوا كل شيء يسير علي سجيته طالما أنا حيّ , و بعد موتي ... فليكن ما يكون "


أعتقد أنه لو كان يعرف المقولة المصرية الشهيرة ( أنا و من بعدي الطوفان ) .. لما وجد أفضل منها ليصف حاله

و هي مقولة – من وجهة نظري الشخصية – لا تدل فقط علي الأنانية , و لكنها تدل أيضاً علي اليأس

فاليأس .. و الإحساس بعدم الجدوي .. يدفعان الفرد لأن يحاول أخذ ما يمكن أخذه من السفينة قبل أن تغرق

و بعد مرور ما يقرب من نصف قرن علي مقولة الملك .. قامت الثورة الفرنسية , و غرقت سفينة فرنسا في طوفان من الدم

و شهد العالم واحدة من أكثر ثورات العالم دموية


( التايتنك )

15 أبريل 1912

المحيط الأطلنطي

--

إصطدمت السفينة ( تايتانك ) بجبل جليدي و هي في طريقها إلي الولايات المتحدة الأمريكية , و كان علي متنها ما يزيد علي 2200 مسافر , غرق منهم حوالي 1500 فرد

عندما شُيدت السفينة ( تايتانك ) كانت رمزاً لثراء الإمبراطورية البريطانية و قوتها التي لا تقهر , لقد كانت تعكس مغالاة الإمبراطورية و غطرستها

كانت بريطانيا قد بلغت حدودها القصوي , و بدأت في التراجع

لقد ارتاحت و أستقرت فيما قد أنجزته أكثر مما بقي لتنجزه , و حل الكبرياء محل الرؤية و التخطيط السليم , و العمل

و عندما يحدث هذا , تكون النهاية وشيكة

--

كانت لفتة مطمئنة و لكنها تنطوي علي جرأة شديدة من المهندسين أن يصرحوا بأن السفينة لا يمكن أن تغرق

و كان الباعث الآخر للإطمئنان يكمن في إختيارهم لطاقم السفينة بقيادة ( جون سميث ) أفضل قبطان بحري في أسطول بريطانيا التجاري في ذلك الوقت و الذي يشهد تاريخه بأنه لم يتعرض لأي حادثة بحرية من قبل

كان لديهم – كما يبدو – طاقم لا يمكن أن يغرق , لسفينة لا يمكن أن تغرق

و تناسي الجميع أهمية التنظيم و العمل و التخطيط السليم

--

تلقي الكابتن ( سميث ) تحذيرات عديدة عن حقل جبال الجليد الواقع في طريقهم مباشرةً و لكنهم حتي لم يبطئوا من سرعتهم

و عندما أصطدمت السفينة بأول جبل جليدي حدثت رجَّة مزعجة لاحظها كل من كان علي متنها .. لكن بعد دقيقتين واصلوا الإحتفال

لم يكن يتوقع أحد أنه بعد أقل من ساعتين سيرقد أكثرهم في قاع المحيط

عندما بدأت قوارب النجاة تغادر ( التايتانك ) كانت القوارب الأولي تمضي دون أن تمتليء لدرجة أن أحد القوارب غادر السفينة و علي متنه 12 راكباً فقط , فأكثر الركاب فضلوا أن يظلوا في السفينة الدافئة لأنهم لم يصدقوا أن السفينة بالفعل تغرق

و لما بات واضحاً للجميع أنها تغرق , كانت القوارب قد مضت

لم تكن هناك قوارب نجاة و معدات طواريء كافية علي سطح التايتانك , و لم لا .. فالسفينة أصلاً لا يمكن أن تغرق .. قوارب النجاة هي نوع من الديكور ليس أكثر

لم يتدرب طاقم التايتانك علي إستخدام قوارب النجاة تدريباً مناسباً , و لم يكن لديهم خطة لتنظيم حركة المرور إلي القوارب , بل و لم يكن الطاقم حتي يعرف كيف يدلي القوارب في الماء

كان عليهم أن يتعلموا كل هذا و السفينة تغرق

لقد ساهم هذا الكبرياء و النظرة غير الموضوعية في إهمالهم لقيمة التخطيط و العمل .. و أدي لخسارة غير ضرورية لعدد كبير من الأرواح



( آرثر روستون )


في الساعة 12:35 من تلك الليلة هرع عامل اللاسلكي إلي كابتن ( آرثر روستون ) قبطان السفينة ( كارباثيا ) ليخبره بأن ( التايتانك ) أصطدمت بجبل جليدي

في الحال أمر ( روستون ) أن تدور السفينة للخلف و تتجه بأقصي سرعة لنجدة ( التايتانك ) التي كانت تبعد عنه بحوالي 58 ميل تقريباً و بعد ذلك سأل عامل اللاسلكي ما إذا كان متأكداً تماماً من صحة الإشارة .

فكر ( روستون ) بشكل سليم , و تعامل مع الحدث بموضوعية كبيرة و أهتم بأدق التفاصيل

فأمر أن يذهب الطبيب الإنجليزي إلي مطعم الدرجة الأولي .. و أعده لأستقبال المصابين

و الطبيب الإيطالي إلي مطعم الدرجة الثانية , و الطبيب المجري إلي مطعم الدرجة الثالثة و أمر أن يتم تزويدهم بكل الأدوات و الإمدادات المطلوبة

و كلف ضباطاً آخرين بمسئولية جوانب السفينة معطياً تعليماته بأن يسجلوا أسماء الناجين ليرسلهم باللاسلكي , ثم أعدوا روافع بكراسي معلقة لرفع الناجين إلي سطح السفينة , و فُتحت جميع الأبواب علي جانبي السفينة

ثم كلف ضابطاً بمسئولية الركاب المسافرين معه ليعتني بإحتياجاتهم , و إنشغل الجميع بإعداد القهوة و الحساء و المؤن اللازمة لتدفئة الناجين من برودة الأطلنطي

و خصص كل كبائن الضباط و غرف الدخان و المكتبة و باقي الأماكن العامة لتكون أماكن مبيت للناجين , و أرسل مندوبين ليوضحوا لركاب السفينة سر النشاط الزائد , و ليدخلوا إلي قلوبهم الطمأنينة

ثم إلتفت ( روستون ) ليواجه أكبر مشاكله , و هي جبال الجليد , فلقد كان يبحر بأقصي سرعة إلي نفس حقل الجليد الذي حطم ( التايتانك

تخفيض سرعة تقدمه لم يكن أحد البدائل المطروحة لأن الوقت ثمين جداً بالنسبة للناجين من ( التايتانك ) الذين يصارعون الأمواج

و لكنه أتخذ كل التدابير الممكنة لتفادي الخطر , فأضاف رجلاً إلي طاقم القيادة , و وضع رجلين آخرين في مقدمة السفينة , و رجلاً علي كل طرف من طرفي المعبر لملاحظة حقول الجليد و إرسال إنذار مبكر لتفادي الإصطدام بها

و حين وصلت السفينة إلي الموقع , جرت عملية إنقاذ الناجين بنظام و إلتزام شديدين و تمكنوا من إنقاذ 705 فرد من مسافري ( التايتانك



( العمل قيمة إنسانية هامة )


كيف نفسر ارتفاع قيمة وسعر ألة الخياطة عن سعر الابرة مثلاً؟

هذا السؤال طرحه أدم سميث وديفيد ريكاردو، وقد أجابوا عليه بأن إنتاج الألة يحتاج إلى وقت ونوعية عمل أكبر بكثير من إنتاج الإبرة. هكذا أكد سميث وريكاردو أن قيم وأسعار الأشياء تتحدد بما أنُفق عليها من وقت ومستوى عمل لازم لإنتاجها.

العمل إذن - وفقاً لهم - هو الذي يحدد قيم الأشياء.

و بشيء من التخيل نستطيع أن نقول أن العمل يحدد أيضاً قيمة الفرد بل و قيمة الدولة ككل و مكانتها

لذلك فالعمل هو السبب الرئيسي لتقدم الدول و الأفراد , و هي نقطة منطقية و بديهية جداً

و لكن الغريب أن قيمة العمل يتم إستبدالها في الكثير من الأحيان بقيم أخري يبشر أصحابها بتقدم سريع و إزدهار مضمون من خلالها

و هو نوع من أنواع النصب أو علي أقل تقدير التربح من وراء إيهام الأفراد بإمكانية تحقيق مستقبل أفضل بدون مجهود حقيقي يُبذل لتحقيقة

المصادر :

1- ( مقال ) : قيمة العمل في السياسة و الإقتصاد بقلم ( سامر سليمان ) ..

شبكة العلمانيين العرب , 23 أكتوبر 2007

2- كتاب ( تاريخ الثورة الفرنسية ) تايرز

3- كتاب ( الحصاد ) ريك جونيور




النص الكامل للمقال