بقلم محمد زكي الشيمي
عرضت في الجزء الثاني من هذا الموضوع ملخص الوضع الإقتصادي المصري لكي يكون واضحاً أمامنا ماهي المشاكل من الناحية الرقمية وما هو المطلوب لحلها.
ماهي مشكلة مصر الحقيقية في رأيي؟
المشكلة الحقيقية هي غياب الرؤية لدي قطاع كبيرجداً من الحكومة والمعارضين علي حدِ سواء، وهذا بدوره ناتج عن وضع أهداف وهمية أو افتراضية أو مبنية علي غير أساس منهجي ثم العمل علي تحقيقها أو المطالبة بها باستمرار دون أن تكون حقاً أهدافاً سليمة أو منطقية،وهذا ناتج عن أن التفكير الاستراتيجي في مصر ينطلق من مقولات سياسية ليحرك الوضع ،وليس من دراسات اقتصادية ، وبرغم أن كلاً من السياسة والاقتصاد يتداخلان بشكل هائل، فإن عدم قدرة الجميع علي التقاط طرف الخيط الذي يبدأ الانطلاق منه هو المشكلة، ليست النظريات أو المواقف السياسية هي طرف الخيط بل الدراسات الاقتصادية ،ومن ثم تدخل السياسة لتحقيق أهداف الدراسة الاقتصادية ،ومن ثم تعاد تعديل الدراسات لتوافق التوجه السياسي ،ويعاد توجيه السياسات وهكذا في عملية تغذية عكسية مستمرة.
انطلاق البرامج السياسية والمشاريع من منطلقات سياسية كأن يكون صاحبها من اليمين أو اليسار ،شيوعي ،اشتراكي ، رأسمالي ، ليبرالي ، إسلامي أو منتمي إيديولوجياً بشكل عام ،هو سبب ما نحن فيه ،لكن لو درسنا الموضوع بشكل منهجي وعلمي وحددنا أهدافاً واضحة ،ثم وضعنا سياساتنا وفق احتياجنا (مهما كانت إيديولوجية هذه السياسة)لنجحنا في اجتياز حالة الاستقطاب الشديدة والاستعداء بين الجميع، وقديماً قالوا الحاجة أم الاختراع ، فالحاجة هي التي تفرض النظرية والسياسة ،وليست النظرية هي التي تفرض علينا ما نحتاج ،وبرغم أني ليبرالي ووجهات نظري الاقتصادية والسياسية معروفة لكن الحقيقة أن وجهات النظر هذه ناتجة في الأساس عن رؤيتي للوضع العام ، وليس العكس أن تكون رؤيتك للوضع العام منطلقة من وجهات نظر مسبقة، وهو الخطأ الذي يقع فيه كثيرين للأسف الشديد من تيارات مختلفة.
ومادامت الحقائق دائماً متفق عليها ووجهات النظر مختلف فيها ، فأنا لا أريد أن أكون ديكتاتوريا وافرض استنتاجاتي- التي قد تكون خاطئة- علي الآخرين فإني عندما وضعت رؤيتي الشاملة للحل قمت ببناءها من أجزاء صغيرة جداً ومبسطة ثم إعادة تجميعها جزءاً جزءاً ودراسة تأثير كل جزء علي الذي سبقه،وتأثير التشكيل الجديد علي كل العوامل حتي تتكامل الصورة كلها .
ولهذا فأنا ساكون ديمقراطياً جداً في رؤيتي للحل ، واترك كل شخص يقرر ما يشاء في لعبة الميكانو الضخمة المسماة السياسة والاقتصاد (إدارة الدولة) وليري كل شخص إلي أين تقوده سلسلة قراراته. لهذا تعالوا نتفق أننا لنضع سياسة لمصر ينبغي أن نضع خطة اقتصادية لمصر،ثم نضع سياساتنا علي أساسها ثم نعدل كل منهما ،وهكذا باستمرار،ولكي نضع خطة اقتصادية كاملة ينبغي أن نلجأ في البداية لتبسيط الأمور ومن ثم تركيبها فوق بعضها شيئاً فشيئاً ،لأني أريد من كل شخص أن يضع خطته الخاصة جزءاً بعد جزء،ويري نتائج تطبيقها بنفسه
وسوف ألجأ هنا لهذا التبسيط ( المعتمد علي العامل الأساسي المؤثر فقط دون بقية العوامل) لندرك تسلسل المشاكل المبنية علي بعضها، لحل إشكالية السؤال المعقد (من أين نبدأ الحل)المواضيع الاقتصادية متشابكة جداً ويؤثر كل منها ويتأثر بالآخر لذا فإن وضع خطة الحل ككتلة مصمتة لن يكون في مقدور الكثيرين فهم أسبابها ونتائحها لو لم نقم بتفكيكها إلي قطع وإعادة تجميعها جزءاً جزءاًلندرك تأثير كل إضافة جديدة علي السابق،وتأثير السابق نفسه علي اختياراتك المتاحة في التالي ،لذاسوف أطرح كل بدائل التعامل مع كل المشاكل واحدة بعد أخري، وبإمكان كل شخص أن يختار ما يشاء منهاً علي أنه سيتحمل مع كل إضافة جديدة نتيجة اختياراته المتتالية هذه، ليدرك أن الحلول الاقتصادية ليست أموراً عبثية ،ولا يمكن أن نعيداختراع العجلة فيها باستمرارثم سأعرض الحل الذي اختاره،وشيئاً فشيئاً ستكتمل السيناريوهات الكاملة أمام الجميع لنري إلي أين تقودنا كل منظومة فكرية وكل حزمة اختيارات
وعلي هذاسأقوم بعرض تراتب المشاكل بشكل مبسط لنستطيع أن نراها بصورة عكسية علي النحو التالي :
1- لكي تكون مصر دولة قوية فينبغي أن يكون لها ثقل سياسي.
2-ولكي يكون لها ثقل سياسي ينبغي أن تتمتع باستقلالية واعتمادية علي الذات تمكنها من اتخاذ قراراتها بحرية.
3- ولكي تتمتع بهذه الاستقلالية لا بد أن تكون قوية اقتصادياً
4- ولكي تكون قوية اقتصادياً فلا بد لها من أن تتمتع بوضع مالي جيد.
5- ولكي تتمتع بوضع مالي جيد فلا بد أن تتخلص من نسبة كبيرة من ديونها الداخلية والخارجية.
6- ولكي تتخلص من هذه الديون فلا بد ألا تعاني من عجز في الموازنة يدفعها لتغطيته بالاقتراض.
7-ولكي لا تعاني من عجز في الموازنة – بالنظر مبدئياً إلي صعوبة تخفيض النفقات- ينبغي أن تزيد إيراداتها المالية.
8- ولكي تزيد إيراداتها المالية ينبغي بشكل أساسي أن تزيد الحصيلة الضريبية.
9- ولكي تزيد الحصيلة الضريبية لا بد من أن يزيد فيها النشاطان الصناعي والخدمي بالذات فيها–باعتبارهما عماد الاقتصاد الحديث القوي - فضلاً عن النشاط الزراعي، بالقدر الكافي لتحقيق المزيد من الحصيلة الضريبية من دون أن تسحق الزيادة الفقير تماماً أو بالعكس تنفر المستثمر من الاستثمار فيزداد الفقر.
10- ولكي يزيد النشاطان الصناعي والخدمي فلا بد من أن يحقق الميزان التجاري وميزان الخدمات فائضاً وعوائد إيجابية
11- ولكي يحققا عوائد إيجابية فلا بد من زيادة حجم الصادرات الصناعية والخدمات التجارية.
12 – ولكي تزيد الصادرات الصناعية فلا بد أساساً من أحد نقطتين
أ- رفع كفاءة الانتاج، ولكي تزيد كفاءة الانتاج لا بد من زيادة كفاءة العنصر البشري،ولكي تزداد كفاءة العنصر البشري لا بد من إتاحة تعليم متميز،ولكي يتاح تعليم متميزفنياً وتقنياً فإن هذا يعود بنا إلي زيادة مصروفات التعليم ،وبالتالي إلي مشكلة عجز الموازنة مرة أخري (دائرة مفرغة)
ب- الاعتماد علي صناعات لا تتطلب تفوقاً فنياً عالياً كمصدر لتحسين الوضع ومن ثم نعود لرفع الكفاءة التعليمية لاحقاً
13- ولكي ننطلق اقتصادياً بصناعات لا تتطلب تفوقاً فنياً عالياً ينبغي ألا نضطر لاستيراد موادها الخام بشكل كبيروإلا فإن العملية لن تكون مجدية بالشكل الكافي.
14- ولكي لا نستورد المواد الخام اللازمة لهذه الصناعات ينبغي أن تكون صناعات تتوافر غالبية موادها الخام في الأراضي المصرية،وبالتالي لابد من الاعتماد علي الزراعة والتعدين.
15- و لكي يتم الاعتماد علي الصناعات القائمة علي الزراعة فلا بد من تطوير النشاط الزراعي ليحقق زيادة عن الاستهلاك يتم تشغيلها في هذه الصناعات بالإضافة إلي التصدير.
16- ولكي يتطور النشاط الزراعي ليسد كل هذه الفجوة فلا بد أن يقل الفارق بين احتياجاتنا الإستهلاكية المباشرة والفائض.
17- ولكي يقل الفارق بين احتياجاتنا الاستهلاكية المباشرة والفائض فلا بد من أحد نقطتين :
أ- زيادة الانتاجية المحصولية للأرض الزراعية بما يحقق هذا الفائض الكبيروهذا أمر وإن كان ممكناً ولكنه لن يفي باحتياجنا منفرداًبالنظر إلي ضخامة التغيير الذي نريد صنعهو نظراً للحاجة إلي تقدم فني كبير في هذا المجال ومدة زمنية طويلة مما يعود بنا مرة أخري للعجز في الموازنة وعدم القدرة علي الانفاق علي البحث العلمي والبحوث الزراعية بالشكل الكافي لتحقيق هذه الطفرة الهائلة التي نحتاجها.
ب- زيادة مساحة الأرض الزراعية ، بالإضافة للعامل السابق وعوامل أخري
15- ولكي تزيد مساحة الرقعة الزراعية لتتناسب مع هذا الهدف الطموح ينبغي أن نزيد مساحة الأرض المستصلحة و نحظر البناء علي الأرض الزراعية.
16- ولكي تزيد مساحة الأرض المستصلحة للزراعة بشكل مناسب فينبغي –ضمن شروط أخري كثيرة-أن نوفر لها المياه اللازمة للري .
17- ولكي نوفر المياه اللازمة للري في ظل مشاكلنا المائية،وثبات حصة مصر من مياه النيل فلا بد من خفض نسبة الاستهلاك السكني للمياه أمام الاستهلاك الموجه لخدمة النشاطين الزراعي والصناعي عموماً.
18- ولكي نخفض نسبة الاستهلاك السكني للمياه فينبغي ترشيد الاستهلاك.
19 – ولكي يتم ترشيد الاستهلاك فلابد من خفض نسبة الهالك الفردي من المياه – في غير الأنشطة الصناعية والزراعية.
20-و لكي يتم هذا فلا بد من حزمة متنوعة من البرامج واللوائح والقوانين ، بالإضافة إلي نقطة هامة جداً وهي ضمان ألا يبتلع النمو السكاني هذه الإجراءات بما يحتاجه كل فرد جديد في المجتمع من حصة مائية.
21-وهكذا فإن المشكلة رقم واحد والتي يتتابع بعدها سيل المشاكل هي معدل النمو السكاني.
بالطبع فإن أي خطة اقتصادية تمشي في خطوط متوازية لأنها تتداخل مع بعضها،والتقدم يحدث في كل المجالات بنسب صغيرة بشكل متزامن ،ولا تمشي بهذه الصورة الهرمية المبسطة،ولكني وضعتها بهذا الشكل ليري الجميع كيف يتم بناءالخطة شيئاً فشيئاً أمام عينيه بناءاً علي اختياراته،وعندها سيكون قد شكل كل الخطوط المتوازية معاً بالفعل.
لهذا سنبدأ بطرح هذه المشاكل واحدة بعد أخري مع سيناريوهات حلها وفقاً لماتم اتخاذه في كل مشكلة وهو ما سأشرحه في الجزء اللاحق
أنا شخصياً أريدكم أن تعتبروا هذه الموضوعات التي أكتبها نوعاً من ألعاب الفيديو القائمة علي التخطيط الإستراتيجي ،وأتمني ألا تملوا سريعاً من عرض هذه الخطة الضخمة ، اعتبروا نفسكم بتتسلوا بمعارضة جدية ،بدل التسلية بمعارضة الصراخ والعويل.
النص الكامل للمقال